صفحة جزء
412 - أنا أبو الحسن : محمد بن أحمد بن زرقويه ، أنا أبو أحمد : حمزة بن محمد بن الحارث الدهقان ، وأبو بكر : محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي : قالا : نا إسماعيل بن إسحاق القاضي ، نا إسماعيل بن أبي أويس ، نا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، وأنا أبو إسحاق : إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي ، أنا أبو بكر : محمد بن عبد الله بن خلف بن بخيت الدقاق ، نا عمر بن محمد بن عيسى الجوهري ، نا أبو بكر الأثرم ، نا عيسى بن ميناء المدني ، قال : حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه ، قال : " إن السنن لا تخاصم ، ولا ينبغي لها أن تتبع بالرأي والتفكير ، ولو فعل الناس ذلك لم يمض يوم إلا انتقلوا من دين إلى دين ، ولكنه [ ص: 393 ] ينبغي للسنن أن تلزم ويتمسك بها على ما وافق الرأي أو خالفه " .

ولعمري إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيرا على خلاف الرأي ، ومجانبته خلافا بعيدا ، فما يجد المسلمون بدا من اتباعها والانقياد لها ، ولمثل ذلك ورع أهل العلم والدين فكفهم عن الرأي ، ودلهم على غوره وغورته ، إنه يأتي الحق على خلافه في وجوه غير واحدة من ذلك : أن قطع أصابع اليد مثل قطع اليد من المنكب ، أي ذلك أصيب ففيه ستة ألف .

ومن ذلك : أن قطع الرجل في قلة ضررها مثل قطع الرجل من الورك ، أي ذلك أصيب ففيه ستة ألف .

ومن ذلك : أن في العينين إذا فقئتا مثل ما في قطع أشراف الأذنين في قلة ضررهما ، أي ذلك أصيب ففيه اثنا عشر ألفا .

ومن ذلك : أن في شجتين موضحتين صغيرتين مائة دينار ، وما بينهما صحيح ، فإن جرح ما بينهما حتى تقام إحداهما إلى الأخرى ، كان أعظم للجرح بكثير ، ولم يكن فيها حينئذ إلا خمسون دينارا .

ومن ذلك أن المرأة الحائض تقضى الصيام ولا تقضي الصلاة .

ومن ذلك رجلان قطعت أذنا أحدهما جميعا ، يكون له اثنا عشر ألفا ، وقتل الآخر فذهبت أذناه وعيناه ويداه ورجلاه ، وذهبت نفسه [ ص: 394 ] ليس له إلا اثنا عشر ألفا ، مثل الذي لم يصب إلا أشراف أذنيه في أشباه هذا غير واحدة ، فهل وجد المسلمون بدا من لزوم هذا ؟

وأي هذه الوجوه يستقيم على الرأي أو يخرج في التفكير ؟ ولكن السنن من الإسلام ، بحيث جعلها الله هي ملاك الدين وقيامه الذي بني عليه الإسلام ، وأي قول أجسم وأعظم خطرا مما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع حين خطب الناس فقال : " وقد تركت فيكم أيها الناس ، ما إن اعتصمتم به ، فلن تضلوا أبدا ، أمرا بيننا : كتاب الله ، وسنة نبيه " .

فقرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، وايم الله إن كنا لنلتقط السنن من أهل الفقه والثقة ، ونتعلمها شبيها بتعليمنا آي القرآن ، وما برح من أدركنا من أهل الفضل والفقه من خيار الناس ، يعيبون أهل الجدل والتنقيب وأخذ بالرأي أشد العيب ، وينهوننا عن لقائهم ومجالستهم ، ويحذروننا مقاربتهم أشد التحذير ، ويخبروننا أنهم أهل ضلال وتحريف ، بتأويل كتاب الله وسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حتى كره المسائل وناحية التنقيب والبحث عن الأمور ، وزجر عن ذلك وحذره المسلمين في غير موطن حتى كان من قوله - صلى الله عليه وسلم - كراهية ذلك أن قال : [ ص: 395 ]

" ذروني ما تركتكم ، فإنما أهلك الذين من قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم [بشيء] به ، فأتوا منه ما استطعتم " .

فأي أمر أكف لمن يعقل عن التنقيب من هذا ؟ ولم يبلغ الناس يوم قيل لهم هذا القول من الكشف عن الأمور جزءا من مائة جزء مما بلغوا اليوم ، وهل هلك أهل الأهواء وخالفوا الحق إلا بأخذهم بالجدل ، والتفكير في دينهم ، فهم كل يوم على دين ضلال وشبهة جديدة لا يقيمون على دين ، وإن أعجبهم إلا نقلهم الجدل والتفكير إلى دين سواه ، ولو لزموا السنن وأمر المسلمين وتركوا الجدل لقطعوا عنهم الشك ، وأخذوا بالأمر الذي حضهم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضيه لهم ، ولكنهم تكلفوا ما قد كفوا مؤنته ، وحملوا على عقولهم من النظر في أمر الله ما قصرت عنه عقولهم ، وحق لها أن تقصر عنه وتحسر دونه ، فهنالك تورطوا وأين ما أعطى الله العباد من العلم في قلته وزهادته مما تناولوا قال الله تعالى : ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) ، وقد قص الله تعالى ما عير أو غير هذه الكلمة به موسى عليه السلام ، من أمر الرجل الذي لقيه فقال : ( فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ) ، فكان منه في خرقه السفينة ، وقتله الغلام ، وبنائه الجدار ، ما قد قال الله تعالى في كتابه ، فأنكر موسى ذلك عليه ،

[ ص: 396 ] وجاه ذلك في ظاهر الأمر منكرا لا تعرفه القلوب ، ولا يهتدي له التفكير ، حتى كشف الله ذلك لموسى فعرفه ، وكذلك ما جاء من سنن الإسلام وشرائع الدين التي لا توافق الرأي ، ولا تهتدي لها العقول ، ولو كشف للناس عن أصولها لجاءت للناس واضحة بينة غير مشكلة على مثل ما جاء عليه أمر السفينة ، وأمر الغلام ، وأمر الجدار ، فإن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - كالذي جاء به موسى يعتبر بعضه ببعض ، ويشبه بعضه بعضا ، ومن أجهل وأضل وأقل معرفة بحق الله وحق رسوله وبنور الإسلام وبرهانه ممن قال لا أقبل سنة ، ولا أمرا مضى من أمر المسلمين حتى يكشف لي غيبه وأعرف أصوله ؟ أو لم يقل ذلك بلسانه ، فكان عليه رأيه وفعله ، ويقول الله تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) .

[ ص: 397 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية