صفحة جزء
652 - أنا أبو الحسن : محمد بن أحمد بن عمر الصابوني ، أنا أبو سليمان : محمد بن الحسين بن علي الحراني ، أنا أبو علي : أحمد بن علي بن الحسن بن شعيب المدائني ، قال : قال المزني : " يقال لمن أنكر السؤال في البحث عما لم يكن لم أنكرتم ذلك ؟ فإن قالوا : لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كره المسألة ، قيل : وكذلك كرهها بعد أن كانت ترفع إليه لما كره من افتراض الله الفرائض بمساءلته وثقلها على أمته لرأفته بها وشفقته عليها ، فقد ارتفع ذلك برفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا فرض بعده يحدث أبدا .

وإن قالوا : لأن عمر أنكر السؤال عما لم يكن ، قيل : فقد يحتمل إنكاره ذلك على وجه التعنت والمغالطة ، لا على التفقه ، والفائدة ، وقد روي أنه قال لابن عباس : سل عما بدا لك ، فإن كان عندنا ، وإلا سألنا عنه غيرنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكما روي عن علي من إنكاره على ابن الكواء أن يسأل تعنتا ، وأمره أن يسأل تفقها ، وقد روي عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وزيد ، في الرجل يخير امرأته ، فقال عمر ، وابن مسعود : إن اختارت زوجها ، فلا شيء ، [ ص: 31 ] وإن اختارت نفسها ، فواحدة يملك الرجعة ، وقال علي : إن اختارت زوجها ، فواحدة يملك الرجعة ، وإن اختارت نفسها فواحدة بائن ، وقال زيد بن ثابت : إن اختارت نفسها فثلاث ، وإن اختارت زوجها ، فواحدة بائن ، وأجابوا جميعا في أمرين ، أحدهما لم يكن ، ولو كان الجواب فيما لم يكن مكروها لما أجابوا إلا فيما كان ، ولسكتوا عما لم يكن .

وعن زيد أنه قال لعلي في المكاتب : أكنت راجمه لو زنا ؟ قال : لا ، قال : أفكنت تقبل شهادته لو شهد ؟ قال : لا .

فقد سأله زيد وأجابه علي فيما لم يكن على التفقه والتفطن .

وعن ابن مسعود في مساءلته عبيدة السلماني : أرأيت ، أرأيت ، وقد ذكرنا فيما مضى ما روي من قول عمر لابن عباس : سلني ، وقول علي : سلوني ، وقول أبي الدرداء : ذاكروا هذه المسائل ، ولو كان هذا السؤال لا يجوز إلا عما كان لما تعرض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، جوابا لا يجوز أبدا إن شاء الله .

ويقال له : أليس على كل مسلم أن يطلب الفرائض في الطهارة والصلاة والزكاة والصيام ، ونحو ذلك من الكتاب والسنة ، قبل أن ينزل ذلك وهو دين ؟ فإذا قال : نعم ، قيل : فكيف يجوز طلب ذلك في بعض الدين ، والجواب فيه ، ولا يجوز في بعض ، وكل ذلك دين ؟ !

ويقال له : هل تخلو المسألة التي أنكرتم جوابها ، قبل أن تكون من أن يكون لها حكم خفي ، حتى لا يوصل إليه إلا بالنظر [ ص: 32 ] والاستنباط ، أو لا يكون لها حكم ، فإن لم يكن لها حكم فلا وجه لذلك ما وجه المسألة فيها كانت أو لم تكن ، وإن كان لها حكم لا يوصل إليه بالمناظرة والاستنباط ، فالتقدم بكشف الخفي ، ومعرفته وإعداده للمسألة قبل نزولها أولى ، فإذا نزلت كان حكمها معروفا فوصل بذلك الحق إلى أهله ، ومنع به الظالم من ظلمه ، وكان خيرا أو أفضل من أن يتوقفوا إلى أن يصح النظر في المسألة عند المناظرة ، وقد يبطئ ذلك ويكون في التوقف ضرر يمنع الخصم من حقه ، والفرج من حله ، وترك الظالم على ظلمه .

وشبهوا أو بعضهم النازلة - فيما بلغني - ، إذا كانت بالضرورة ، والجواب فيها بأكل الميتة ، فأحلوا الجواب في النازلة ، كما أحلوا الميتة بالضرورة ، فيقال لهم : أفتزعمون أن الذي ذكرنا روايتكم عنهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما أجابوا فيه مما لم يكن وتعرضهم جواب ما لم يسألوا عنه قد صاروا بذلك في معنى من أكل الميتة على غير ضرورة ؟

ويقال لهم : ما يشبه خوف المرء على نفسه الموت ، فأمر بإحيائها من أكل الميتة من المجيب ، إلا مما حل لصاحب المسألة ، ولو كان هذا التشبيه لكان إذا حل برجل ضرورة حل لغيره أكل الميتة ، كما إذا حلت برجل مسألة ، حل لغيره جواب المسألة ، وكان أولى التشبيهين ، إن جاز أن يقاس على الميتة أن يكون الجاهل المنزول به المسألة أحق بالجواب الذي يدفع به عن نفسه مكروه المسألة ، كما كان بضرورة المضرور تحل له الميتة ، يدفع بها عن نفسه مكروه الضرورة " .

[ ص: 33 ] قال المزني : وإن قالوا أو بعضهم : إنما زعمنا أن المسألة إذا نزلت فسئل عنها العالم كان كالمضطر ، فعليه أن يجيب كما كان على المضطر أن يأكل الميتة قيل لهم : فروايتكم عن عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا سئلوا رد المسألة هذا إلى هذا حتى تدور المسألة فترجع إلى الأول توجب في قولكم أنهم تركوا ما فرض الله عليهم ، لأن على المضطر فرضا أن يحيي نفسه بالميتة ، ولا يقتلها بترك أكل الميتة ، قد ترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما فرض عليهم في معنى قولكم .

ويقال لهم : أليس إنما يجب عليهم جواب المنزول به ليدفع به جهله ، وليعلم بالجواب ما حرم عليه وحل له ؟ فإذا قال : نعم ، قيل له : فقد رجعت المسألة إلى أن الضرورة بغيره أوجبت الجواب عليه ، فكذلك لضرورة المضطر بغيره يجب أكل الميتة عليه ، وإلا فهما مفترقان لا يشبه الجواب في المسألة الميتة .

ويقال له : أليس إذا نزلت المسألة فسئل عنها العالم حل له الجواب بالسؤال ، كما إذا نزلت به ضرورة حل له أكل الميتة بالاضطرار ؟ فإذا قال : بلى ، قيل : وكذلك إذا ارتفع السؤال رجع الجواب حراما كما إذا ارتفع الاضطرار رجعت الميتة حراما ، فإذا قالوا : نعم ، قيل لهم : فلم سألتم عن جواب الماضين وملأتم منها الكتب ، وهي حرام عليكم ، وإنما حلت للعالم بالسؤال ، ثم حرمت بارتفاع السؤال كما حلت للمضطرين الميتة بالاضطرار ، ثم حرمت [ ص: 34 ] بارتفاع الاضطرار ؟ فإن قالوا : لأن ذلك السؤال والجواب قد كان ، قيل : وكذلك الاضطرار وأكل الميتة بالاضطرار قد كان ، فما الفرق بين ذلك ، إن كان لجواب عندكم نظيرا للميتة ؟

فإن قالوا : إنما ذلك حكاية ، وليست سؤالا ولا جوابا ، قيل لهم : فلا معنى فيما رويتم يستدل به على الفقه والعلم فيما لم ينزل ، فإن قالوا : نعم ، أقاموا الحكاية مقام الجواب ، ولزمهم تحريم السؤال والجواب عما لم يكن ، وهو نقص قولهم ، وإن قالوا : لا معنى أكثر من الحكاية ، قيل : فلا فرق بين حكاية ما لا يضر وما لا ينفع ، وبين ما حكيتم من جوابات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما معنى ما روى الفقهاء والعلماء عن السابقين ثم عن التابعين واقتدائهم بجوابان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ويقال لهم : أرأيتم مجوسيا أتاكم من بلده ، راغبا في الإسلام ، محبا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : علموني الدخول في الإسلام ، فعلمتموه إياه فدخل فيه ، ثم قال : إني راجع إلى بلدي فما علينا من الطهارة ، لأكون منها على علم قبل دخول وقت الصلاة ؟ وما الذي يوجب الغسل وينقض الطهور ؟ وما الصلاة وما الذي يفسدها ؟ وما حكم الزيادة فيها والنقصان منها والسهو فيها ؟ وما في عشرة دنانير ومائة درهم من الزكاة ؟ وما الصوم ؟ وما حكم الأكل فيه عامدا أو ساهيا ؟ وما على من كان منا مريضا أو كبيرا أو ضعيفا ؟ وهل بأس بدرهم بدرهمين ؟ وما فيه القصاص من الدماء والجراح ، وحكم الخطأ ؟ وهل في ذلك الرجال والنساء [ ص: 35 ] سواء ؟ فإني راجع إلى بلدي وأهلي وعشيرتي ، ينتظرون بإسلامهم رجوعي ، فأكون ويكونون من ديننا على علم فنعمل بذلك ونتقرب إلى الله ، تؤجرون عليه ، وذلك كله عندكم واضح لا تشكون فيه .

أيجوز أن يعلموه ذلك ؟ أم يقولون : لا نخبرك حتى تنزل بك نازلة ، فتكسرون بذلك نشاطه ، وتخبثون نفسه على حديث عهده بكفره ، وتدعونه على جهله ؟ أم تغتنمون رغبته في الإسلام ، وإسلام من ينتظره ، وتعليم الجهال ما يحسنونه من العلم ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من سئل عن علم فكتمه ، جيئ به يوم القيامة ملجما بلجام من النار " ، فإن قالوا : نعلمه ذلك قبل نزوله : تركوا قولهم ، لأن بعض ذلك أصل ، وبعضه قياس ، وإن قالوا : نعلمه بعضا ، وإن لم ينزل ، ونترك بعضا حتى ينزل ، قيل : فما الفرق بين ذلك ، وكل ذلك دين ؟ !

فانظروا رحمكم الله على ما في أحاديثكم التي جمعتموها ، واطلبوا العلم عند أهل الفقه تكونوا فقهاء إن شاء الله " .

[ ص: 36 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية