صفحة جزء
160 - قال الإمام - رحمه الله - : وروي إسلام أبي ذر - رضي الله عنه - من وجه آخر ، روي عن أبي يزيد المدني ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - ، عن أبي ذر - رضي الله عنه - ، قال : كان لي أخ يقال له : أنيس ، وكان شاعرا ، فتنافر هو وشاعر آخر ، قال أنيس : أنا أشعر منك ، وقال الآخر : أنا أشعر منك ، فقال أنيس : أترضى أن يكون بيننا كاهن مكة ؟ قال : نعم ، فخرجنا إلى مكة ، فاجتمعنا عند الكاهن ، فأنشده هذا كلامه ، وهذا كلامه ، فقال لأنيس : قضيت [ ص: 148 ] لنفسك ، قال : فكأنه فضل شعر أنيس ، فرجع أنيس ، فقال : يا أخي ، رأيت بمكة رجلا يزعم أنه نبي ، وهو على دينك ، قال ابن عباس - رضي الله عنه - : فقلت : أي شيء كنت تعبد ؟ قال : لا شيء ، كنت أصلي من الليل حتى أسقط كأني خفاء حتى يوقظني حر الشمس ، فقلت : أين كنت توجه وجهك ؟ قال : حيث وجهني ربي - عز وجل - ، قال أبو ذر : قلت : إني أريد أن آتيه ، فجهزت ، ثم خرجت ، فقال لي أنيس : لا تظهر أنك تطلبه ، فإني أخاف عليك أن تقتل دونه ، قال أبو ذر - رضي الله عنه - : فجئت حتى دخلت مكة ، فكنت بين الكعبة ، وأستارها خمس عشرة ليلة ، ويوما أخرج كل ليلة ، فأشرب من ماء زمزم شربة ، فما وجدت على كبدي سخفة جوع ، ولقد تعكن بطني ، فجعلت امرأتان تدعوان ليلة آلهتهما ، وتقول إحداهما يا إساف هب لي غلاما ، وتقول الأخرى يا نائلة هب لي كذا ، وكذا ، فقلت : هن بهن ، فولتا ، وجعلتا تقولان الصابئ بين الكعبة ، وأستارها إذ مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأبو بكر يمشي وراءه ، فقالتا : الصابئ بين الكعبة ، وأستارها ، فتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكلام قبح ما قالتا ، قال أبو ذر - رضي الله عنه - : فظننت أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فخرجت إليه ، فقلت : السلام عليك يا رسول الله ، فقال : وعليك السلام ورحمة الله ثلاثا ، ثم قال لي : منذ كم أنت هاهنا ؟ قلت : منذ خمس عشرة يوما ، وليلة ، قال : فمن أين كنت تأكل ؟ قلت : آتي زمزم كل ليلة نصف الليل ، فأشرب منها ، فما وجدت على كبدي سخفة جوع ، ولقد تعكن بطني ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن هذا طعم ، وشرب ، وهي مباركة ، قالها ثلاثا ، ثم سألني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن أنت ؟ قلت : من غفار ، وكانت غفار يقطعون على الحاج ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقبض عني ، فقال لأبي بكر : انطلق يا أبا بكر ، فانطلق بي إلى منزله ، فقرب زبيبا ، فأكلنا معه ، فأقمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فعلمني الإسلام ، وقرأت من القرآن شيئا ، فقلت : يا رسول الله ، إني أريد أن أظهر ديني ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني أخاف عليك أن تقتل ، قلت : لابد منه يا رسول الله ، وإن قتلت ، قال : فسكت عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقريش حلق يتحدثون في المسجد ، فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، فتنقضت الحلق ، فقاموا إلي ، فضربوني حتى تركوني كأني نصب أحمر ، وكانوا يرون أنهم قد قتلوني ، فقمت ، فجئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لي : ألم أنهك ، فقلت : يا رسول الله ، كانت حاجة في نفسي ، فقضيتها ، فقمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لي : الحق بقومك ، فإذا بلغك ظهوري [ ص: 149 ] فائتني ، قال أبو ذر - رضي الله عنه - : أتيت أمي ، فلما رأتني بكت ، وقالت : يا بني أبطأت علينا حتى تخوفت أن قد قتلت ، ألقيت صاحبك الذي طلبت ؟ قلت : نعم ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، قالت : فما صنع أنيس ، قلت : أسلم ، قالت : والله ما بي عنكما رغبة ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، قال : فأقمت في قومي ، فأسلم منهم ناس كثير حتى بلغنا ظهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأتيته .

وفي رواية ، قال أنيس : وقد ساموه ، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي رواية ، فرأى ما بي من الحال ، فقال : ألم أنهك ، وفي رواية ابن الصامت ، قال أبو ذر - رضي الله عنه - : صليت قبل الناس بأربع سنين ، قلت له : من كنت تعبد ؟ قال : إله السماء ، وفي روايته ، فجعلوا يقولون : ساحر ، ويقولون له : كاهن ، ويقولون له : شاعر ، ولقد حملت كلامه على أقراء الشعر ، فلم يلتئم ، ولا يلتئم على لسان أحد بعدي ، وفي رواية حتى تركوني مثل النصب الأحمر ، فلما ضربني برد السحر أفقت ، وفي رواية حتى إذا كان ذات ليلة ضرب على آذان أهل مكة ، فلم يطف بالبيت أحد غير امرأتين أقبلتا تسبحان إسافا ، ونائلة ، فقلت : زوجوا أحدهما بالآخر ، فقالتا : أما والله لو كان هاهنا من أنفارنا أحد .

قال الإمام - رحمه الله - : الألفاظ الغريبة في الحديث الشنة : القربة الخلق ، ففرق : فخاف ، أجنه الليل : ستره ، أعتم : دخل في ظلام الليل ، والصرمة : القطيع من الغنم مدافع رجلا : أي مفاخر رجلا ، وليلة أضحيان : أي مضيئة ، وقوله احملوا أحدهما على صاحبه : معناه معنى قوله زوجوا أحدهما بالآخر ، وقوله كلمة تملأ الفم : أي أستعظم أن أتكلم بها ، وقوله قبضا قبضا : روي بالضاد ، والصاد ، والقبصة بالصاد دون القبضة ، وقوله تاله ، وتأله : أي تعبد ، والخفاء : الكساء ، فتنافر : فتحاكم ساموه : أي كلفوه التعب سخفة جوع : شدة جوع تعكن بطني : أي تكسر من السمن ، هن بهن : الهن كناية عن الفرج ؛ أي أجمعوا بينهما يستهزئ بالصنم ، وعابدي الصنم ، والنصب : حجارة يذبح عليها ما يتقرب به إلى الأصنام من النعم ، أقراء الشعر : أوزانه ، وطرقه ، تسبحان إسافا : أي تذكرانه بالتعظيم ، وفي رواية تمسحان ، الأنفار جمع النفر ، وهم الجماعة .

[ ص: 150 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية