صفحة جزء
267 - قال الواقدي : فحدثني الحكم بن القاسم ، عن زكريا بن عمرو ، قال : فلما مضت ثلاث سنين أطلع الله رسوله على أمر صحيفتهم ، وأن الأرضة قد أكلت ما فيها من جور ، وظلم ، وبقي ما كان فيها من ذكر الله ، فذكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب ، فقال له أبو طالب : أحق ما تخبرني به يا ابن أخي ؟ قال : نعم ، والله ، فذكر ذلك أبو طالب لإخوته ، فقالوا له : ما ظنك به ، قال أبو طالب : والله ما كذبني قط ، قالوا : فما ترى ؟ قال : [ ص: 199 ] أرى أن تلبسوا أحسن ما تجدون من الثياب ، ثم تخرجوا إلى قريش ، فتذكر ذلك لهم قبل أن يبلغهم الخبر ، قال : فخرجوا حتى دخلوا المسجد ، فعمدوا إلى الحجر ، وكان لا يجلس فيه إلا مسان قريش ، وذوو نهاهم ، فترفعت إليهم المجالس ينظرون إليهم ماذا يقولون ؟ قال أبو طالب : إنا قد جئنا لأمر ، فأجيبوا فيه بالذي يعرف لكم ، قالوا : مرحبا بكم ، وأهلا ، وعندنا ما يسرك فيما طلبت ، قال : إن ابن أخي أخبرني - ولم يكذبني قط - أن الله - عز وجل - قد سلط على صحيفتكم التي كتبتم الأرضة ، فلحست كل ما كان فيها من جور ، وظلم ، وقطيعة رحم ، وبقي فيها كل ما ذكر به الله ، فإن كان ابن أخي صادقا نزعتم عن سوء رأيكم ، وإن كان كاذبا دفعته إليكم ، فقتلتموه ، أو استحييتموه إن شئتم ، قالوا : أنصفتنا ، فأرسلوا إلى الصحيفة ، فلما أتي بالصحيفة ، قال : اقرؤوها ، فلما فتحوها إذا هي كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أكلت إلا ما كان من ذكر الله ، فسقط في أيدي القوم ، ثم نكسوا رؤوسهم ، فقال أبو طالب : هل بين لكم أنكم أولى بالظلم ، والقطيعة ، والإساءة ، فلم يراجعه أحد من القوم ، وتلاوم رجال من قريش على ما صنعوا ببني هاشم ، فمكثوا غير كثير ، ورجع أبو طالب إلى الشعب وهو يقول : يا معشر قريش نحصر ، ونحبس ، وقد بان الأمر ، ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة ، والكعبة ، فقالوا : اللهم انصرنا على من ظلمنا ، وقطع أرحامنا ، واستحل منا ما يحرم عليه منا ، ثم انصرفوا ، ثم إن مطعم بن عدي كان يشرب هو وعدي بن قيس السهمي ، قال عدي بن قيس : أزهوا أبدا إن كنت كما تقول ، فأين أنت عن إخوانك من بني هاشم جوعى مظلومين محصورين ؟ فسكت مطعم حتى إذا صحا من سكره ، قال : ماذا قلت آنفا ؟ فأخبره بقوله ، فقال مطعم : لئن قلت ذلك لقد استخف بحقهم ، وقطعت أرحامهم ، ولو كان معي ومعك رجلان على رأينا هذا لخرجنا من صلح القوم ، ونابذناهم على سواء ، قال عدي : من هذان الرجلان ، قال مطعم بن عدي : زمعة بن الأسود ، وأبو البختري بن هشام ، فهل لك أن ننظر ما عندهما ، قال : نعم ، فأقبلا يتقاودان حتى وقفا على زمعة بن الأسود ، وأبي البختري بن هشام ، فقالا : أكلتما ، وشربتما ؟ قالا : أكلنا ، وشربنا ، قال : فإخوانكم من بني هاشم جوعى هلكى مظلومون ، فقالا : والله لئن قلتما ذلك لقد ضيق عليهم ، واستخف بحقهم ، وقطعت أرحامهم ، ولو كان معنا رجل واحد على رأينا هذا خرجنا من صلح القوم ، ولنابذناهم على سواء ، قالا : من هو ، قال : زهير بن أبي أمية ، قالا : فهل لكما أن نأتيه ، فننظر [ ص: 200 ] ما عنده ، قال : نعم ، فأقبلوا حتى أتوا زهيرا في داره ، فقالوا : أكلت ، وشربت ؟ قال : نعم ، أكلت ، وشربت ، قالوا : وإخوانكم من بني هاشم جوعى هلكى مظلومون ، قال : أما والله لقد استخف بحقهم ، وقطعت أرحامهم ، وسيء إليهم ، قالوا : ما عندك ؟ قال : عندي ما تشيرون به ، قالوا : نرى أن نلبس السلاح ، ثم نخرج إلى النفر من بني هاشم ، فنأمرهم بالخروج إلى مساكنهم ، ففعلوا ، وخرج بنو هاشم إلى مساكنهم ، ومات مطعم بن عدي بعد هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسنة ، وهو يومئذ ابن تسع وتسعين سنة ، قالوا : وخرج بنو هاشم من الشعب في السنة العاشرة .

قال ابن إسحاق : إن الأرضة أكلت الصحيفة كلها ، إلا باسمك اللهم ، قال عروة بن الزبير : ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد ، واشتد عليهم البلاء ، وعمد المشركون من قريش ، فأجمعوا أمرهم ، ومكرهم على أن يقتلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علانية ، فلما رأى أبو طالب عمل القوم ، جمع بني عبد المطلب ، فأجمع على أن يدخلوا شعبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويمنعوه ممن أراد قتله ، فاجتمعوا كافرهم ، ومسلمهم ، منهم من فعله حمية ، ومنهم من فعله إيمانا ، ويقينا ، فلما عرفت قريش أن القوم قد اجتمعوا ، ومنعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، واجتمعوا على ذلك كافرهم ، ومسلمهم ، اجتمع المشركون من قريش ، وأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ، ولا يخالطوهم ، ولا يبايعوهم حتى يسلموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للقتل ، وكتبوا بمكرهم صحيفة ، وعهودا ، ومواثيق أن لا يقبلوا من بني هاشم أبدا صلحا ، ولا يأخذهم بهم رأفة ، ولا رحمة ، ولا هوادة حتى يسلموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للقتل ، فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين ، واشتد عليهم فيه البلاء ، والجهد ، وقطعوا عنهم الأسواق ، فلا يتركون طعاما يدنو من مكة إلا بادروا إليه ليقتلهم الجوع ، وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأتى فراشه حتى يراه من أراد به مكرا ، فإذا نوم الناس أمر أحد بنيه ، وإخوته ، أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي بعض فرشهم ، فيرقد عليه ، فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من قصي ، ورجال ممن سواهم ، وذكروا الذي وقعوا فيه من القطيعة ، فأجمعوا أمرهم على نقض ما تعاهدوا عليه ، وبعث الله على صحيفتهم التي فيها المكر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأرضة ، فلحست كل شيء كان فيها ، وكانت بسقف الكعبة ، وكان فيها عهد الله ، [ ص: 201 ] وميثاقه ، فلم تترك فيها شيئا إلا لحسته ، وبقي فيها ما كان من شرك ، أو ظلم ، أو بغي ، فأطلع الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الذي صنع بالصحيفة ، فقال أبو طالب : لا ، والثواقب ما كذبني ، فانطلق يمشي بعصابة من بني عبد المطلب حتى أتى المسجد وهو حافل من قريش ، فلما رأوهم أنكروا ذلك ، وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ، وأتوهم ليعطوهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتكلم أبو طالب ، وقال : حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم فائتوا بصحيفتكم التي فيها مواثيقكم ، فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح ، وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها ، فأتوا بصحيفتهم لا يشكون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدفوع إليهم ، وقالوا : قد آن لكم أن تقبلوا ، وترجعوا إلى أمر يجمع عامتكم لا يقطع ذلك بيننا وبينكم إلا رجل واحد جعلتموه خطرا لعشيرتكم ، وفسادكم ، فقال أبو طالب : إنما أتيتكم لنعطيكم أمرا فيه نصف بيني وبينكم هذه الصحيفة التي في أيديكم ، إن ابن أخي أخبرني ، ولم يكذبني أن الله - عز وجل - بعث عليها دابة ، فلم تترك فيها اسما لله إلا لحسته ، وتركت فيها غدركم ، وتظاهركم علينا بالظلم ، فإن كان كما يقول فأفيقوا ، فوالله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا ، وإن كان الذي يقول باطلا دفعنا إليكم صاحبكم فقتلتم ، أو استحييتم ، فقالوا : قد رضينا بالذي تقول ، ففتحت الصحيفة ، فوجد الصادق المصدوق قد أخبر خبرها قبل أن تفتح ، فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب ، قالوا : والله ما كان هذا إلا سحرا من صاحبكم ، وارتكسوا ، وعادوا شر ما كانوا عليه من كفرهم ، والشدة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والمسلمين ، وأصحابه ، ورهطه ، فقال أولئك النفر من بني عبد المطلب : إن أولى بالكذب ، والسحر غيرنا ، فكيف ترون ، فإنا نعلم أن الذي اجتمعتم عليه أقرب للخبث ، والسحر لولا الذي اجتمعتم عليه من السحر لم تفسد الصحيفة ، وهي في أيديكم ، فما كان لله من اسم هو فيها طمسه ، وما كان من بغي تركه في صحيفتكم ، فنحن السحرة أم أنتم ، فندم المشركون من قريش عند ذلك ، وقال رجال منهم : أبو البختري ، وهو العاص بن ابن هشام بن الحارث أسد بن عبد العزى بن قصي ، ومنهم المطعم بن عدي ، وهاشم بن عمرو ، أو هشام بن عمرو ، والصواب هشام أخو بني عامر بن لؤي قيل : كان كاتب الصحيفة ، وزهير بن أبي أمية ، وزمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي في رجال من قريش ولدتهم نساء بني هاشم كانوا قد ندموا على الذي صنعوا ، فقالوا : نحن [ ص: 202 ] براء من هذه الصحيفة ، فقال أبو جهل : هذا أمر قضي بليل .

قال الإمام - رحمه الله - : وفي رواية موسى بن عقبة ، عن الزهري ، فلحست ما كان فيها من عهد ، وميثاق ، فلم تترك اسما لله - عز وجل - فيها إلا لحسته ، وبقي ما كان فيها من شرك ، أو ظلم ، أو قطيعة ، وفي رواية ابن إسحاق لم يكن بقي فيها إلا باسمك اللهم ، وفي رواية عروة لحست ما كان فيها من ذكر الله ، وبقي فيها ما كان من البغي ، والشرك ، وأي ذلك كان ، ففيه دلالة نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية