صفحة جزء
فصل :

339 - قال الواقدي : فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتي عشرة سنة اجتمعت قريش أن يجهزوا عيرا إلى الشام بتجارات ، وأموال عظام ، وأجمع أبو طالب المسير في تلك العير ، فلما تهيأ له المسير أحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشخص معه ، فرق عليه أبو طالب ، فكلمه عمومته ، وعماته ، وقالوا لأبي طالب : مثل هذا الغلام لا تخرج به تعرضه للأرياف ، والأوباء ، فهم أبو طالب بتخليفه ، فرآه يبكي ، فقال : ما لك يا ابن أخي ؟ لعل بكاءك من أجل أني أريد أن أخلفك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نعم ، فقال أبو طالب : فإني لا أفارقك أبدا ، فاخرج معي ، فخرج معه ، فلما نزل الركب بصرى من الشام ، وبها راهب يقال له : بحيراء في صومعته ، وكان علماء النصارى يكونون في تلك الصومعة قبل ذلك لا يكلمهم حتى كان ذلك العام ، فنزلوا قريبا من صومعته ، فصنع لهم طعاما ، ودعاهم ، وإنما حمله على ذلك أنه رآهم حين طلعوا وغمامة تظل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بين القوم حتى نزلوا تحت الشجرة ، ثم نظر إلى تلك الغمامة قد أظلت الشجرة واخضرت أغصان الشجرة على النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى استظل ، فلما رأى ذلك بحيراء نزل من صومعته ، وأمر بذلك الطعام ، فأتي به ، وأرسل إليهم يا معشر قريش ، إني قد صنعت لكم طعاما ، فأنا أريد أن تحضروه ، ولا تخلفوا منكم صغيرا ، ولا كبيرا ، ولا حرا ولا عبدا ، فإن هذا شيء تكرمونني به ، فقال رجل من القوم : إن لك لشأنا اليوم يا بحيراء ، ما كنت تصنع بنا مثل هذا ، فما شأنك اليوم ، فاجتمعوا إليه ، وتخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحداثة سنه ليس في القوم أصغر منه يبصر رحالهم تحت الشجرة ، فلما نظر بحيراء إلى القوم جعل ينظر ، فلا يرى الغمامة على أحد من القوم ، ويراها متحلقة على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : خيرا يا معشر قريش ، قالوا : ما تخلف أحد إلا غلام هو أحدث القوم سنا في رحالنا ، قال : ادعوه ، فليحضر طعامي ، فقام الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف ، فقال : والله إن كان بنا للوم أن يتخلف ابن عبد المطلب من بيننا ، ثم قام إليه ، فاحتضنه ، وأقبل به حتى أجلسه على الطعام ، والغمامة تسير على رأسه ، وانقلعت الشجرة من أصلها حين فارقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وجعل بحيراء يلحظه لحظا شديدا ، وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته ، فلما تفرقوا عن طعامهم قام إليه بحيراء ، فقال : يا غلام ، أسألك بحق اللات والعزى ألا أخبرتني [ ص: 231 ] عما أسألك عنه ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وأي حق لهما عندي ؟ لا تسألني بحق اللات والعزى ، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما ، وما تأملتهما بالنظر إليهما كراهة لهما ، ولكن سلني بالله أخبرك عما تسألني إن كان عندي علم ، قال بحيراء : ، فبالله أسألك ، وجعل يسأله عن أشياء من حاله ، فيخبره حتى سأل عن نومه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تنام عيني ، ولا ينام قلبي ، وجعل ينظر في عينيه إلى حمرة ، ثم قال لقومه : أخبروني عن هذه الحمرة تأتي ، وتذهب ، أو لا تفارقه ، قالوا : ما رأيناها فارقته قط ، وكلمه أن ينزع جبة عليه لينظر إلى ظهره ، فأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينزعها حتى كلمه أبو طالب ، فنزعها ، فنظر إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحجلة فاقشعرت كل شعرة في رأسه ، وقبل موضع الخاتم ، فجعلت قريش تقول : إن لمحمد عند هذا الراهب لقدرا ، ثم قال الراهب لأبي طالب : ما هذا الغلام منك ، قال : ابني ، قال بحيراء : ما هو بابنك ، ما ينبغي أن يكون أبوه حيا ، قال : فإنه ابن أخي ، قال : فما فعل أبوه ؟ قال أبو طالب : توفي وأمه حبلى به ، قال : فما فعلت أمه ؟ قال : توفيت قريبا ، قال : صدقت ، ارجع بابن أخيك إلى بلدك ، واحذر عليه اليهود ، فوالله لئن رأوه ، وعرفوا منه الذي أعرف ليبغنه عنتا ، فإنه كائن لابن أخيك شأن عظيم نجده في كتبنا ، وقد أخذ علينا مواثيق ، قال أبو طالب : من أخذه عليكم ؟ فتبسم الراهب ، ثم قال : الله أخذه علينا نزل به عيسى ابن مريم ، فأقلل اللبث ، وارجع به إلى أهله ، فإني قد أديت إليك النصيحة ، فإن إنه من غيرها يحسدوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية