صفحة جزء
فصل في ذكر الشبه التي تعلق بها من أجاز سماع الغناء

فمنها حديث عائشة رضي الله عنها أن الجاريتين كانتا تضربان عندها بدفين وفي بعض ألفاظه دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث . فقال : أبو بكر أمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله : دعهما يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا . وقد سبق ذكر الحديث : ومنها حديث عائشة رضي الله عنها أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار . فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا عائشة ما كان معهم [ ص: 230 ] من اللهو . فإن الأنصار يعجبهم اللهو - وقد سبق ومنها حديث فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الله أشد إذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته . قال ابن طاهر : وجه الحجة أنه أثبت تحليل استماع الغناء إذ لا يجوز أن يقاس على محرم ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم . أنه قال : ما أذن الله عز وجل لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن . ومنها حديث حاطب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : فصل ما بين الحلال والحرام الضرب بالدف .

والجواب . أما حديثا عائشة رضي الله عنها فقد سبق الكلام عليهما وبينا أنهم كانوا ينشدون الشعر وسمي بذلك غناء لنوع يثبت في الإنشاد وترجيع مثل ذلك لا يخرج الطباع عن الاعتدال وكيف يحتج بذلك الواقع في الزمان السليم عند قلوب صافية على هذه الأصوات المطربة الواقعة في زمان كدر عند نفوس قد تملكها الهوى ما هذا إلا مغالطة للفهم أوليس قد صح في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت . لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد . وإنما ينبغي للمفتي أن يزن الأحوال كما ينبغي للطبيب أن يزن الزمان والسن والبلد ثم يصف مقدار ذلك وأين الغناء بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث من غناء أمرد مستحسن بآلات مستطابة وصناعة تجذب إليها النفس وغزليات يذكر فيه الغزال والغزالة والخال والخد والقد والاعتدال فهل يثبت هناك طبع هيهات بل ينزعج شوقا إلى المستلذ ولا يدعي أنه لا يجد ذلك إلا كاذب أو خارج عن حد الآدمية ومن ادعى أخذ الإشارة من ذلك إلى الخالق فقد استعمل في حقه ما لا يليق به على أن الطبع يسبقه إلى ما يجد من الهوى وقد أجاب أبو الطيب الطبري عن هذا الحديث بجواب آخر . فأخبرنا أبو القاسم الحريري عنه أنه قال : هذا الحديث حجتنا لأن أبا بكر سمى ذلك مزمور الشيطان ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر قوله وإنما منعه من التغليظ في الإنكار لحسن رفعته ولا سيما في يوم العيد . وقد كانت عائشة رضي الله عنها صغيرة في ذلك الوقت ولم ينقل عنها بعد بلوغها وتحصيلها إلا ذم الغناء . وقد كان ابن أخيها القاسم بن محمد يذم الغناء ويمنع من سماعه وقد أخذ العلم عنها .

قال المصنف رحمه الله : وأما اللهو المذكور في الحديث الآخر فليس بصريح [ ص: 231 ] في الغناء فيجوز أن يكون إنشاد الشعر أو غيره . وأما التشبيه بالاستماع إلى القينة فلا يمتنع أن يكون المشبه حراما . فإن الإنسان لو قال وجدت للعسل لذة أكثر من لذة الخمر كان كلاما صحيحا وإنما وقع التشبيه بالإصغاء في الحالتين فيكون أحدهما حلالا أو حراما لا يمنع من التشبيه وقد قال عليه الصلاة والسلام : إنكم لترون ربكم كما ترون القمر فشبه أيضا الرؤية بإيضاح الرؤية وإن كان وقع الفرق بأن القمر في جهة يحيط به نظر الناظر والحق منزه عن ذلك والفقهاء يقولون في ماء الوضوء لا تنشف الأعضاء منه لأنه أثر عبادة فلا يسن مسحه كدم الشهيد . فقد جمعوا بينهما من جهة اتفاقهما في كونهما عبادة . وإن افترقا في الطهارة والنجاسة . واستدلال ابن طاهر بأن القياس لا يكون إلا على مباح فقه الصوفية لا علم الفقهاء . وأما قوله يتغنى بالقرآن فقد فسره سفيان بن عيينة فقال معناه يستغني به وفسره الشافعي فقال : معناه يتحزن به ويترنم وقال غيرهما يجعله مكان غناء الركبان إذا ساروا . وأما الضرب بالدف فقد كان جماعة من التابعين يكسرون الدفوف وما كانت هكذا - فكيف لو رأوا هذه - وكان الحسن البصري يقول ليس الدف من سنة المرسلين في شيء . وقال أبو عبيد القاسم بن سلام من ذهب به إلى الصوفية فهو خطأ في التأويل على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإنما معناه عندنا إعلان النكاح واضطراب الصوت والذكر في الناس .

قال المصنف رحمه الله قلت : ولو حمل على الدف حقيقة على أنه قد قال أحمد بن حنبل أرجو أن لا يكون بالدف بأس في العرس ونحوه وأكره الطبل . أخبرنا عبد الله بن علي المقري ، نا نصر بن أحمد بن النظر ، نا أبو محمد عبد الله بن عبيد الله المؤدب ، ثنا الحسين بن إسماعيل المحاملي ، ثنا عبيد الله بن جرير بن جبلة ، ثنا عمر بن مرزوق ، ثنا زهير ، عن أبي إسحاق ، عن عامر بن سعد البجلي قال طلبت ثابت بن سعد وكان بدريا فوجدته في عرس له قال وإذا جوار يغنين ويضربن بالدفوف فقلت ألا تنهى عن هذا قال لا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لنا في هذا . أخبرنا عبد الله بن علي ، نا جدي أبو منصور محمد بن أحمد الخياط ، نا عبد الملك بن بشران ، ثنا أبو علي أحمد بن الفضل بن خزيمة ، ثنا أحمد بن القاسم الطائي ، ثنا ابن سهم ، ثنا عيسى بن يونس ، عن خالد بن إلياس ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن [ ص: 232 ] القاسم عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أظهروا النكاح واضربوا عليه بالغربال يعني الدف .

قال المصنف رحمه الله : وكل ما احتجوا به لا يجوز أن يستدل به على جواز هذا الغناء المعروف المؤثر في الطباع ، وقد احتج لهم أقوام مفتونون بحب التصوف بما لا حجة فيه فمنهم أبو نعيم الأصفهاني فإنه قال كان البراء بن مالك يميل إلى السماع ويستلذ بالترنم .

قال المصنف رحمه الله : وإنما ذكر أبو نعيم هذا عن البراء لأنه روى عنه أنه استلقى يوما فترنم فانظر إلى هذا الاحتجاج البارد فإن الإنسان لا يخلو من أن يترنم فأين الترنم من السماع للغناء المطرب . وقد استدل لهم محمد بن طاهر بأشياء لولا أن يعثر على مثلها جاهل فيغتر لم يصلح ذكرها لأنها ليست بشيء فمنها أنه قال في كتابه باب الاقتراح على القوال والسنة فيه . فجعل الاقتراح على القوال سنة واستدل بما روى عمرو بن الشريد عن أبيه . قال : استنشدني رسول الله صلى الله عليه وسلم من شعر أمية فأخذ يقول هي حتى أنشدته مائة قافية وقال ابن طاهر باب الدليل على استماع الغزل . قال العجاج سألت أبا هريرة رضي الله عنه طاف الخيالات فهاجا سقما . فقال أبو هريرة رضي الله عنه كان ينشد مثل هذا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال المصنف رحمه الله : فانظر إلى احتجاج ابن طاهر ما أعجبه كيف يحتج على جواز الغناء بإنشاد الشعر وما مثله إلا كمثل من قال يجوز أن يضرب بالكف على ظهر العود فجاز أن يضرب بأوتاره أو قال يجوز أن يعصر العنب ويشرب منه في يومه فجاز أن يشرب منه بعد أيام ، وقد نسي أن إنشاد الشعر لا يطرب كما يطرب الغناء . وقد أنبأنا أبو زرعة بن محمد بن طاهر عن أبيه ، قال أخبرنا أبو محمد التميمي قال سألت الشريف أبا علي بن أبي موسى الهاشمي عن السماع فقال : ما أقول فيه غير أني حضرت ذات يوم شيخنا أبا الحسن عبد العزيز بن الحارث التميمي سنة سبعين وثلاثمائة في دعوة عملها لأصحابه حضرها أبو بكر الأبهري شيخ المالكيين وأبو القاسم الداركي شيخ الشافعيين وأبو الحسن طاهر بن الحسين شيخ أصحاب الحديث وأبو الحسين بن سمعون [ ص: 233 ] شيخ الوعاظ والزهاد وأبو عبد الله بن مجاهد شيخ المتكلمين وصاحبه أبو بكر بن البقلاني في دار شيخنا أبي الحسن التميمي شيخ الحنابلة . فقال : أبو علي لو سقط السقف عليهم لم يبق بالعراق من يفتي في حادثة بسنة . ومعهم أبو عبد الله غلام وكان يقرأ القرآن بصوت حسن فقيل له قل شيئا فقال وهم يسمعون .


خطت أناملها في بطن قرطاس رسالة بعبير لا بأنفاس     أن زر فديتك قف لي غير محتشم
فإن حبك لي قد شاع في الناس     فكان قولي لمن أدى رسالتها
قف لي لأمشي على العينين والرأس

قال أبو علي فبعدما رأيت هذا لا يمكنني أن أفتي في هذه المسألة بحظر ولا إباحة .

قال المصنف رحمه الله : وهذه الحكاية إن صدق فيها محمد بن طاهر فإن شيخنا ابن ناصر الحافظ كان يقول ليس محمد بن طاهر بثقة حملت هذه الأبيات على أنه أنشدها لا أنه غنى بها بقضيب ومخدة إذ لو كان كذلك لذكره ثم فيها كلام مجمل قوله لا يمكنني أن أقول فيها بحظر ولا إباحة لأنه إن كان مقلدا لهم فينبغي أن يفتي بالإباحة وإن كان ينظر في الدليل فيلزمه مع حضورهم أن يفتي بالحظر ثم بتقدير صحتها أفلا يكون اتباع المذهب أولى من اتباع أرباب المذاهب .

وقد ذكرنا عن أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد رضوان الله عليهم أجمعين ما يكفي في هذا وشيدنا ذلك بالأدلة . وقال ابن طاهر في كتابه : باب إكرامهم للقوال وإفرادهم الموضع له - واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بردة كانت عليه إلى كعب بن زهير لما أنشده بانت سعاد . وإنما ذكرت هذا ليعرف قدر فقه هذا الرجل واستنباطه وإلا فالزمان أشرف من أن يضيع بمثل هذا التخليط . وأنبأنا أبو زرعة عن أبيه محمد بن طاهر ، نا أبو سعيد إسماعيل بن محمد الحجاجي ، ثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد المقري ثنا أبي ثنا علي بن أحمد ، ثنا محمد بن العباس بن بلال قال سمعت سعيد بن محمد قال حدثني إبراهيم بن عبد الله وكان الناس يتبركون به قال حدثنا المزني قال مررنا مع الشافعي ، وإبراهيم بن إسماعيلي على دار قوم وجارية تغنيهم .


خليلي ما بال المطايا كأننا     نراها على الأعقاب بالقوم تنكص

[ ص: 234 ] فقال الشافعي . ميلوا بنا نسمع ، فلما فرغت قال الشافعي ، لإبراهيم : أيطربك هذا قال لا . قال : فما لك حس .

قال المصنف رحمه الله : قلت وهذا محال على الشافعي رضي الله عنه وفي الرواية مجهولون وابن طاهر لا يوثق به وقد محال على الشافعي رضي الله عنه وفي الرواية مجهولون وابن طاهر لا يوثق به وقد كان الشافعي أجل من هذا كله . ويدل على صحة ما ذكرناه ما أخبرنا به أبو القاسم الحريري ، عن أبي الطيب الطبري . قال : أما سماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم فإن أصحاب الشافعي قالوا : لا يجوز سواء كانت حرة أو مملوكة قال وقال الشافعي : وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته . ثم غلظ القول فيه فقال وهو دياثة .

قال المصنف رحمه الله : وإنما جعل صاحبها سفيها فاسقا لأنه دعا الناس إلى الباطل ومن دعا إلى الباطل كان سفيها فاسقا .

قال المصنف رحمه الله قلت : وقد أخبرنا محمد بن القاسم البغدادي ، عن أبي محمد التميمي ، عن أبي عبد الرحمن السلمي . قال : اشترى سعد بن عبد الله الدمشقي جارية قوالة للفقراء وكانت تقول لهم القصائد .

قال المصنف رحمه الله قلت : وقد ذكر أبو طالب المكي في كتابه قال أدركنا مروان القاضي وله جوار يسمعن التلحين قد أعدهن للصوفية . قال : وكانت لعطاء جاريتان تلحنان وكان إخوانه يسمعون التلحين منهما .

قال المصنف رحمه الله قلت : أما سعد الدمشقي فرجل جاهل ، والحكاية عن عطاء محال وكذب ، وإن صحت الحكاية عن مروان فهو فاسق والدليل على ما قلنا ما ذكرنا عن الشافعي رضي الله عنه وهؤلاء القوم جهلوا العلم فمالوا إلى الهوى . وقد أنبأنا زاهر بن طاهر قال أنبأنا أبو عثمان الصابوني ، وأبو بكر البيهقي قالا أنبأنا الحاكم أبو عبد الله النيسابوري . قال أكثر ما التقيت أنا وفارس بن عيسى الصوفي في دار أبي بكر الأبر يسمى للسماع من هزارة رحمها الله فإنها كانت من مستورات القوالات .

[ ص: 235 ] قال المصنف : قلت : وهذا أقبح شيء من مثل الحاكم كيف خفي عليه أنه لا يحل له أن يسمع من امرأة ليست بمحرم ثم يذكر هذا في كتاب تاريخ نيسابور وهو كتاب علم من غير تحاش عن ذكر مثله لقد كفاه هذا قد حافى عدالته .

قال المصنف رحمه الله : فإن قيل ما تقول فيما أخبركم به إسماعيل بن أحمد السمرقندي ، نا عمر بن عبد الله ، نا أبو الحسين بن بشران ، نا عثمان بن أحمد ، نا حنبل بن إسحاق ، ثنا هارون بن معروف ، ثنا جرير ، عن مغيرة قال كان عون بن عبد الله يقص فإذا فرغ أمر جارية له تقص وتطرب . قال المغيرة : فأرسلت إليه أو أردت أن أرسل إليه إنك من أهل بيت صدق وأن الله عز وجل لم يبعث نبيه صلى الله عليه وسلم بالحمق . وإن صنيعك هذا صنيع أحمق . فالجواب أنا لا نظن بعون أنه أمر الجارية أن تقص على الرجال بل أحب أن يسمعها منفردا وهي ملكه . فقال له: مغيرة الفقيه هذا القول وكره أن تطرب الجارية له فما ظنك بمن يسمعهن الرجال ويرقصهن ويطربهن : وقد ذكر أبو طالب المكي أن عبد الله بن جعفر كان يسمع الغناء .

قال المصنف رحمه الله : وإنما كان يسمع إنشاد جواريه وقد أردف ابن طاهر الحكاية التي ذكرها عن الشافعي وقد ذكرناها آنفا بحكاية عن أحمد بن حنبل رواها من طريق عبد الرحمن السلمي قال حدثنا الحسين بن أحمد قال سمعت أبا العباس الفرغاني يقول سمعت صالح بن أحمد بن حنبل يقول : كنت أحب السماع وكان أبي أحمد يكره ذلك فوعدت ليلة ابن الخبازة فمكث عندي إلى أن علمت أن أبي قد نام وأخذ يغني فسمعت حس أبي فوق السطح فصعدت فرأيت أبي فوق السطح يسمع وذيله تحت إبطه يتبخطر على السطح كأنه يرقص .

قال المصنف رحمه الله : هذه الحكاية قد بلغتنا من طرق ففي بعض الطرق عن صالح قال : كنت أدعو ابن الخبازة القصائدي وكان يقول ويلحن وكان أبي في الزقاق يذهب ويجيء ويسمع إليه وكان بيننا وبينه باب وكان يقف من وراء الباب يستمع وقد أخبرنا بها أبو منصور القزاز ، نا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت ، نا أحمد بن علي بن الحسين النوري ، ثنا يوسف بن عمر القواس قال سمعت أبا بكر بن مالك القطيعي يحكي أظنه عن عبد الله بن أحمد قال كنت أدعو ابن الخبازة القصائدي وكان يقول ويلحن وكان أبي ينهاني عن التغني فكنت إذا [ ص: 236 ] كان ابن الخبازة عندي أكتمه عن أبي لئلا يسمع فكان ذات ليلة عندي وكان يغني فعرضت لأبي عندنا حاجة وكنا في زقاق فجاء فسمعه يغني فتسمع فوقع في سمعه شيء من قوله فخرجت لأنظر فإذا بأبي ذاهبا وجائيا فرددت الباب فدخلت فلما كان من الغد . قال لي : يا بني إذا كان هذا : نعم . . الكلام أو معناه .

قال المصنف رحمه الله : وهذا ابن الخبازة كان ينشد القصائد الزهديات التي فيها ذكر الآخرة . ولذلك استمع إليه أحمد ، وقول من قال ينزعج فإن الإنسان قد يزعجه الطرب فيميل يمينا وشمالا . وأما رواية ابن طاهر التي فيها فرأيته وذيله تحت إبطه يتبختر على السطح كأنه يرقص فإنما هو من تغيير الرواة وتغييرهم لا يظنونه المعنى تصحيحا لمذهبهم في الرقص . وقد ذكرنا القدح في السلمي وفي ابن طاهر الراويين لهذه اللفظات . وقد احتج لهم أبو طالب المكي على جواز السماع بمنامات وقسم السماع إلى أنواع وهو تقسيم صوفي لا أصل له . وقد ذكرنا أن من ادعى أنه يسمع الغناء ولا يؤثر عنده تحريك النفس إلى الهوى فهو كاذب . وقد أخبرنا أبو القاسم الحريري ، عن أبي طالب الطبري قال قال بعضهم . إنا لا نسمع الغناء بالطبع الذي يشترك فيه الخاص والعام : قال وهذا تجاهل منه عظيم لأمرين . أحدهما أنه يلزمه على هذا أن يستبيح العود والطنبور وسائر الملاهي لأنه يسمعه بالطبع الذي لا يشاركه فيه أحد من الناس فإن لم يستبح ذلك فقد نقض قوله وإن استباح فقد فسق . والثاني أن هذا المدعي لا يخلو من أن يدعي أنه فارق طبع البشر وصار بمنزلة الملائكة . فإن قال هذا فقد تخرص على طبعه وعلم كل عاقل كذبه إذا رجع إلى نفسه ووجب أن لا يكون مجاهدا لنفسه ولا مخالفا لهواه ولا يكون له ثواب على ترك اللذات والشهوات . وهذا لا يقوله عاقل وإن قال أنا على طبع البشر المجبول على الهوى والشهوة : قلنا له : فكيف تسمع الغناء المطرب بغير طبعك ، أو تطرب لسماعه لغير ما غرس في نفسك .

أخبرنا ابن ناصر ، نا أحمد بن علي بن خلف ، ثنا أبو عبد الرحمن السلمي قال : [ ص: 237 ] سمعت أبا القاسم الدمشقي يقول سئل أبو علي الرودباري عمن سمع الملاهي ويقول هي لي حلال لأني قد وصلت إلى درجة لا تؤثر في اختلاف الأحوال فقال نعم . قد وصل لعمري ولكن إلى سقر .

قال المصنف رحمه الله : فإن قيل بلغنا عن جماعة أنهم سمعوا عن المنشد شيئا فأخذوه على مقصودهم فانتفعوا به . قلنا . لا ينكر أن يسمع الإنسان بيتا من الشعر أو حكمة فيأخذها إشارة فتزعجه بمعناها لا لأن الصوت مطرب كما سمع بعض المريدين صوت مغنية تقول :


كل يوم تتلون     غير هذا بك أجمل

فصاح ومات فهذا لم يقصد سماع المرأة ولم يلتفت إلى التلحين . وإنما قتله المعنى ثم ليس سماع كلمة أو بيت لم يقصد سماعه كالاستعداد لسماع الأبيات المذكورة الكثيرة المطربة مع انضمام الضرب بالقضيب والتصفيق إلى غير ذلك ثم إن ذلك السامع لم يقصد السماع . ولو سألنا هل يجوز لي أن أقصد سماع ذلك منعناه .

قال المصنف رحمه الله : وقد احتج لهم أبو حامد الطوسي بأشياء نزل فيها عن رتبته عن الفهم مجموعها أنه قال : ما يدل على تحريم السماع نص ولا قياس وجواب هذا ما قد أسلفناه وقال : لا وجه لتحريم سماع صوت طيب فإذا كان موزونا لا يحرم أيضا وإذا لم يحرم الآحاد فلا يحرم المجموعة أفراد المباحثات إذا اجتمعت كان المجموع مباحا قال : ولكن ينظر فيما يفهم من ذلك فإن كان فيه شيء محظور حرم نثره ونظمه ، وحرم التصويت به .

قال المصنف رحمه الله : قلت : وإني لأتعجب من مثل هذا الكلام فإن الوتر بمفرده أو العود وحده من غير وتر لو ضرب لم يحرم ولم يطرب فإذا اجتمعا وضرب بهما على وجه مخصوص حرم وأزعج ، وكذلك ماء العنب جائز شربه وإذا حدثت فيه شدة مطربة حرم .

وكذلك هذا المجموع يوجب طربا يخرج عن الاعتدال فيمنع منه لذلك . وقال ابن عقيل: الأصوات على ثلاثة أضرب محرم ومكروه ومباح . فالمحرم الزمر والناي والسرنا والطنبور والمعزفة والرباب وما ماثلها ، نص الإمام أحمد [ ص: 238 ] بن حنبل على تحريم ذلك . ويلحق به الجرافة والجنك لأن هذه تطرب فتخرج عن حد الاعتدال وتفعل في طباع الغالب من الناس ما يفعله المسكر ، وسواء استعمل على حزن يهيجه أو سرور . لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوتين أحمقين صوت عند نغمة وصوت عند مصيبة . والمكروه القضيب لكنه ليس بمطرب في نفسه وإنما يطرب بما يتبعه وهو تابع للقول ، والقول مكروه ، ومن أصحابنا من يحرم القضيب كما يحرم آلات اللهو فيكون فيه وجهان كالقول نفسه والمباح الدف وقد ذكرنا عن أحمد أنه قال أرجو أن لا يكون بالدف بأس في العرس ونحوه وأكره الطبل . وقد قال أبو حامد : من أحب الله وعشقه واشتاق إلى لقائه فالسماع في حقه مؤكد لعشقه .

قال المصنف رحمه الله : قلت وهذا قبيح أن يقال عن الله عز وجل يعشق وقد بينا فيما تقدم خطأ هذا القول ثم أي توكيد لعشقه في قول المغني :


ذهبي اللون تحسب من     وجنتيه النار تقتدح

قال المصنف رحمه الله قلت : وسمع ابن عقيل بعض الصوفية يقول : إن مشايخ هذه الطائفة كلما وقفت طباعهم حداها الحادي إلى الله بالأناشيد فقال ابن عقيل : لا كرامة لهذا القائل إنما تحدى القلوب بوعد الله في القرآن ووعيده وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله سبحانه وتعالى قال : ( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ) وما قال : وإذا أنشدت عليه القصائد طربت . فأما تحريك الطباع بالألحان فقاطع عن الله والشعر يتضمن صفة المخلوق والمعشوق مما يتعدد عنه فتنه . ومن سولت له نفسه التقاط العبر من محاسن البشر وحسن الصوت فمفتون . بل ينبغي النظر إلى المحال التي أحالنا عليها الإبل والخيل والرياح ونحو ذلك ، فإنها منظورات لا تهيج طبعا بل تورث استعظاما للفاعل . وإنما خدعكم الشيطان فصرتم عبيد شهواتكم ، ولم تقفوا حتى قلتم هذه الحقيقة . وأنتم زنادقة في زي عباد ، شرهون في زي زهاد مشبهة تعتقدون أن الله عز وجل يعشق ويهام فيه . ويؤلف ويؤنس به ، وبئس التوهم لأن الله عز وجل خلق الذوات مشاكلة لأن [ ص: 239 ] أصولها مشاكلة فهي تتؤانس وتتألم بأصولها العنصرية وتراكيبها المثلية في الأشكال الحديثة . فمن ههنا جاء التلاوم والميل وعشق بعضهم بعضا ، وعلى قدر التقارب في الصورة يتأكد الأنس .

والواحد منا يأنس بالماء لأن فيه ماء وهو بالنبات آنس لقربه من الحيوانية بالقوة النمائية وهو بالحيوان آنس لمشاركته في أخص النوع به أو أقربه إليه فأين المشاركة للخالق والمخلوق حتى يحصل الميل إليه والعشق والشوق . وما الذي بين الطين والماء وبين خالق السماء من المناسبة وإنما هؤلاء يصورون الباري سبحانه وتعالى صورة تثبت في القلوب ، وما ذاك الله عز وجل ذاك صنم شكله الطبع والشيطان وليس لله وصف تميل إليه الطباع ولا تشتاق إليه الأنفس وإنما مباينة الإلهية للمحدث أوجبت في الأنفس هيبة وحشمة فما يدعيه عشاق الصوفية لله في محبة الله إنما هو وهم اعترض .

وصورة شكلت في نفوس فحجبت عن عبادة القديم فتجدد بتلك الصورة أنس فإذا غابت بحكم ما يقتضيه العقل أقلقهم الشوق إليها فنالهم من الوجد وتحرك الطبع والهيمان ما ينال الهائم في العشق فنعوذ بالله من الهواجس الرديئة والعوارض الطبيعية التي يجب بحكم الشرع محوها عن القلوب كما يجب كسر الأصنام .

التالي السابق


الخدمات العلمية