صفحة جزء
أخبرنا أبو الفضل الموصلي بقراءة والدي عليه رحمهما الله، قال: أخبرنا الشيخ أبو علي حنبل بن عبد الله بن الفرج بن سعادة الرصافي المكبر سماعا عليه بسفح قاسيون سنة اثنتين وستمائة، قال: أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن الحصين الشيباني، قال: أخبرنا أبو علي الحسن بن علي بن المذهب، أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي ، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي ، حدثنا بهز ، وهاشم ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت، قال هاشم: حدثني ثابت ، حدثنا عبد الله بن رباح، قال: وفدت وفود إلى معاوية أنا فيهم وأبو هريرة، فذكر حديثا. وفيه: قال: فقال أبو هريرة: ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معشر الأنصار؟ قال: فذكر فتح مكة: قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل مكة، قال: فبعث الزبير على إحدى المجنبتين، وبعث خالدا على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة بن الجراح على الحسر، فأخذوا بطن الوادي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة، قال: قد وبشت قريش أوباشا لها، قال: فقالوا: نقدم هؤلاء فإن كان لهم شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا. وفيه: فقال: يا أبا هريرة؟ فقلت: لبيك يا رسول الله. قال: فقال: اهتف لي يا للأنصار. وفيه: ولا يأتني إلا أنصاري. فهتف بهم فجاؤوا، فأطافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم؟ ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى: احصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا. فقال أبو هريرة: فانطلقنا، فما يشاء أحد منا أن يقتل منهم ما شاء، وما أحد يوجه إلينا منهم شيئا. قال: فقال أبو سفيان: يا رسول الله أبيحت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قال: فغلق الناس أبوابهم. قال: فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحجر فاستلمه، ثم طاف بالبيت. قال: وفي يده قوس، آخذا بسية القوس ، فأتى في [ ص: 236 ] طوافه على صنم إلى جنب البيت يعبدونه، قال: فجعل يطعن بها في عينه، ويقول: ( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ) ، قال: ثم أتى الصفا فعلاه حيث ينظر إلى البيت، فرفع يديه فجعل يذكر الله تعالى بما شاء أن يذكره ويدعوه، قال: والأنصار تحته. قال: يقول بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته. قال: وجاء الوحي - وكان إذا جاء الوحي لم يخف علينا، فليس أحد من الناس يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضي - قال هاشم: فلما قضى الوحي رفع رأسه، ثم قال: يا معشر الأنصار قلتم:

أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته. قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله. قال:

فما اسمي إذن، إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم والممات مماتكم. قال: فأقبلوا إليه يبكون، ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله ورسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن الله ورسوله يعذرانكم ويصدقانكم.
رواه أبو داود عن الإمام أحمد بن حنبل.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم بدخول مكة أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، إلا أنه قد عهد في نفر سماهم بقتلهم، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، منهم: عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري ، وعبد العزى بن خطل ، وعكرمة بن أبي جهل ، والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي ، ومقيس بن صبابة ، وهبار بن الأسود، وقينتا ابن خطل، كانتا تغنيان ابن خطل بهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسارة مولاة لبني عبد المطلب.

فأما ابن أبي سرح فكان ممن أسلم قبل ذلك وهاجر، وكان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد مشركا، وصار إلى قريش، فلما كان يوم الفتح فر إلى عثمان - وكان أخاه من الرضاعة، أرضعت أمه عثمان - فغيبه حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما اطمأن الناس، فاستأمنه له، فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا، ثم قال: نعم. فلما [ ص: 237 ] انصرف عثمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله: ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه. فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلي يا رسول الله؟ فقال: إن النبي لا ينبغي أن يكون له خائنة أعين.


قلت: وكان بعد ذلك ممن حسن إسلامه، ولم يظهر منه شيء ينكر عليه، وهو آخر النجباء العقلاء الكرماء من قريش، وكان فارس بني عامر بن لؤي، المقدم فيهم، وولاه عمر بن الخطاب ثم عثمان رضي الله عنهم.

وأما ابن خطل فإنما أمر بقتله أنه كان مسلما فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا، وبعث معه رجلا من الأنصار، وكان معه مولى له يخدمه، وكان مسلما، فنزل منزلا وأمر المولى أن يذبح له تيسا، فيصنع له طعاما، فنام، فاستيقظ ابن خطل ولم يصنع له شيئا، فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا. وكانت له قينتان: فرتنا وقريبة، وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقتلهما معه، فقتله سعيد بن حريث المخزومي ، وأبو برزة الأسلمي.

وروينا عن ابن جميع ، حدثنا محمد بن أحمد الخولاني بمكة، حدثنا أحمد بن رشدين، قال: حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن لهيعة ، عن عقيل ، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم; أنه دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر ، فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة. فقال: اقتلوه. قال ابن شهاب: ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرما.

وأما عكرمة بن أبي جهل، ففر إلى اليمن، فاتبعته امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام فردته، فأسلم وحسن إسلامه، وكان يعد من فضلاء الصحابة. [ ص: 238 ] وأما الحويرث بن نقيذ فكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فقتله علي بن أبي طالب يوم الفتح.

وأما مقيس بن صبابة فكان قد أتى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما، ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله بأخيه هشام بن صبابة بعد أن أخذ الدية، وكان الأنصاري قتل أخاه مسلما خطأ في غزوة ذي قرد وهو يرى أنه من العدو. وقد تقدم ذلك في غزوة ذي قرد وأبيات مقيس في ذلك، ثم لحق بمكة مرتدا، فقتله يوم الفتح نميلة بن عبد الله الليثي وهو ابن عمه.

قال أبو عمر: ومن سنته صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا أعفي أحدا قتل بعد أخذ الدية". هذا من المسلمين. وأما مقيس فارتد أيضا.

وأما هبار بن الأسود: فهو الذي عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفهاء قريش حين بعث بها أبو العاص زوجها إلى المدينة، فأهوى إليها هبار هذا ونخس بها، فسقطت على صخرة، فألقت ذا بطنها، واهراقت الدماء، فلم يزل بها مرضها ذلك حتى ماتت سنة ثمان، فقال عليه الصلاة والسلام: إن وجدتم هبارا فأحرقوه بالنار، ثم قال: اقتلوه، فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار. فلم يوجد يوم الفتح ثم أسلم بعد الفتح وحسن إسلامه وصحب النبي صلى الله عليه وسلم.

وذكر الزبير أنه لما أسلم وقدم مهاجرا جعلوا يسبونه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سب من سبك. فانتهوا عنه.

وأما قينتا ابن خطل فرتنا وقريبة فقتلت إحداهما واستؤمن رسول الله صلى الله عليه وسلم للأخرى، فأمنها، فعاشت مدة، ثم ماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

[ ص: 239 ] وأما سارة فاستؤمن لها أيضا فأمنها عليه الصلاة والسلام فعاشت إلى أن أوطأها رجل فرسا بالأبطح في زمن عمر فماتت.

واستجار بأم هانئ بنت أبي طالب رجلان، قيل: هما: الحارث بن هشام ، وزهير بن أبي أمية، وقيل: أحدهما جعدة بن هبيرة. فأجارتهما، فأراد علي قتلهما، فدخلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي الضحى، فذكرت ذلك له، فأمضى جوارها، وقال: قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت .

وأسلمت أم هانئ يوم الفتح، وهي شقيقة علي بن أبي طالب ، وعقيل ، وجعفر ، وطالب، أمهم فاطمة بنت أسد، قيل: اسمها فاختة، وقيل: هند. ومن حجة من قال إن اسمها هند قول زوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي حين فر يوم الفتح ولم يسلم ولحق بنجران ومات على شركه في أبيات أولها:


أشاقتك هند أم جفاك سؤالها كذاك النوى أسبابها وانفتالها     وقد أرقت في رأس حصن ممرد
بنجران يسري بعد نوم خيالها     وعاذلة هبت علي تلومني
وتعذلني بالليل ضل ضلالها     لئن كنت قد تابعت دين محمد
وعطفت الأرحام منك حبالها     فكوني على أعلى سحيق بهضبة
ممنعة لا يستطاع قلالها     فإني من قوم إذا جد جدهم
على أي حال أصبح اليوم حالها     وإني لأحمي من وراء عشيرتي
إذا كثرت تحت العوالي مجالها     وطارت بأيدي القوم بيض كأنها
مخاريق ولدان يطيش ظلالها     وإن كلام المرء في غير كنهه
لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها

[ ص: 240 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية