صفحة جزء
[ ص: 624 ]

[ مسألة : الكافر يطلق امرأته ثلاثا : ]

فأما المسألة الأولى : وهي وقوع الطلاق ، فلا يخلو إما أن يعتقد الكافر نفوذ الطلاق أو لا يعتقده ، فإن اعتقده نفذ طلاقه ، ولم يكن الإسلام شرطا في نفوذه ، هذا مذهب أحمد ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، وأصحابه .

وقال مالك : الإسلام شرط في وقوع الطلاق ، واحتج الجمهور بأن أنكحتهم صحيحة كما تقدم ، فإذا صح النكاح نفذ فيه الطلاق ، فإنه حكم من أحكام النكاح ، فترتب عليه كسائر أحكامه من التوارث ، والحل ، وثبوت النسب ، وتحريم المصاهرة ، وسائر أحكامه ، وقد قال تعالى : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ) فسماه " نكاحا " وأثبت به تحريم المصاهرة ، وكان الظهار يعده أهل الجاهلية طلاقا ، وقام الإسلام حتى أبطل الله ما كان عليه أهل الجاهلية ، وشرع فيه الكفارة .

وكيف يحكم ببطلان نكاح ولد فيه سيد ولد آدم وزاده فضلا وشرفا لديه ؟ وقد صرح بأنه - صلى الله عليه وسلم - ولد من نكاح ، لا من سفاح .

[ ص: 625 ] قال الإمام أحمد في رواية مهنا في يهودي ، أو نصراني طلق امرأته طلقتين ، ثم أسلم ، وطلق أخرى : " لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره " .

وإذا ظاهر من امرأته ، ثم أسلم ، أخبرناه أن عليه ظهارا .

وإذا تزوج بلا شهود ، ثم أسلما ، هما على نكاحهما .

[ ص: 626 ] وقال في رواية ابن منصور ، في نصراني آلى من امرأته ، ثم أسلم : يوقف مثل المسلم سواء ، فإما أن يفيء وإما أن يطلق .

وقال في رواية حنبل في مسلم تحته نصرانية طلقها ثلاثا ، فتزوجت بنصراني تحل للأول لأنه زوج .

[ ص: 627 ] قال المبطلون لأنكحتهم : هذا قول عبد الرحمن بن عوف ، ولا مخالف له من الصحابة ، وقد أقره عمر على هذا القول ، فقال أبو محمد بن حزم : روينا من طريق قتادة أن رجلا طلق امرأته تطليقتين في الجاهلية ، وطلقة في الإسلام ، فسأل عمر ، فقال : لا آمرك ولا أنهاك ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : لكني آمرك ليس طلاقك في الشرك بشيء .

قال : وبهذا كان يفتي قتادة .

وصح عن الحسن ، وربيعة ، وهو قول مالك ، وأبي سليمان ، وأصحابهما .

قالوا : وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه مسلم في " صحيحه " : " أوصيكم بالنساء خيرا ، فإنكم أخذتموهن بأمانة [ ص: 628 ] الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله " .

قالوا : ووجه الدليل أن " كلمة الله " هي قوله : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) ، فأخبر أن الحل كان بهذه الكلمة ، ( فكلمة الله ) هي إباحته للنكاح ، أو أراد ( بكلمة الله ) الإسلام ، وما يقتضيه من شرائط النكاح ، فدل على أن الفروج لا تستباح بغير كلمة الإسلام .

قالوا : وأيضا فكل آية أباحت النكاح في كتاب الله سبحانه فالخطاب بها للمؤمنين ، فدل على أن المراد " بكلمة الله " الإسلام .

قالوا : والمسألة إجماع من الصحابة ، وذكروا أثر عبد الرحمن المتقدم .

قالوا : وكيف يحكم بصحة نكاح عري عن ولي ورضا وشاهدين ؟

[ ص: 629 ] قالوا : وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل " وأنتم تصححون أنكحتهم ، ولو وقعت بغير ولي ، فالحديث نص في بطلان مذهبكم .

[ ص: 630 ] [ ص: 631 ] [ ص: 632 ] [ ص: 633 ] قالوا : وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " .

قالوا : وهم يستبيحون النكاح بالخمر ، والخنزير ، وفي العدة بغير ولي ولا شهود وغير ذلك مما لا يستباح به في الإسلام ، فوجب الحكم ببطلانه .

قالوا : ولو مات الحربي عن زوجته ، أو قتل ثم سبيت فإنها تستبرأ بحيضة ، ولا تعتد ، ولو كان نكاحها صحيحا لوجب أن تعتد ، وقد قال تعالى عنهم : ( ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق ) ، وهذا يقتضي أنهم لا يدينون دين الحق في نكاح ، ولا غيره ، ومن لم يدن دين الحق في نكاحه فهو مردود .

قال المصححون : لا حجة لكم في شيء مما ذكرتم .

أما أثر عبد الرحمن بن عوف فإن الإمام أحمد قال في رواية مهنا : حديث يروى : أن عبد الرحمن بن عوف قال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - : " ليس طلاق أهل الشرك بشيء " ليس له إسناد ، فهذا جواب أحمد .

[ ص: 634 ] وأجاب القاضي بأن هذا محمول على جواز أنكحتهم لذوات المحارم ، فإن الطلاق لا يقع فيها . وهذا من أفسد الأجوبة ، وكيف يقول له عمر في نكاح أمه وابنته : لا آمرك ولا أنهاك ؟ وكيف يقول له عبد الرحمن : لكني آمرك ، ليس طلاقك بشيء ، ولم يكن في العرب من يستحل نكاح ذوات المحارم كالمجوس ؟

وعندي جواب آخر ، وهو أن الطلاق كان في الجاهلية بغير عدد كما قالت عائشة : كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها ، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة ، وإن طلقها مائة مرة ، أو أكثر ، حتى قال رجل لامرأته ، والله لا أطلقك فتبيني مني ، ولا أؤويك أبدا ، قالت : وكيف ذلك ؟ قال : أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك : فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة - رضي الله عنها - فأخبرتها ، فسكتت عائشة حتى جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فسكت ، حتى نزل القرآن : ( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) قالت : فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا ، من كان طلق ومن لم يكن طلق رواه الترمذي متصلا ، ثم رواه عن عروة ، ولم يذكر فيه عائشة ، وقال هذا أصح .

[ ص: 635 ] وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : " واستحللتم فروجهن بكلمة الله " فما أصحه من حديث ، وما أضعف الاستدلال به على بطلان أنكحة الكفار ، وقد أجاب عنه أصحاب الشافعي ، وأحمد بأن " كلمة الله " هي لفظ الإنكاح . [ ص: 636 ] والتزويج اللذين لا ينعقد النكاح إلا بهما . وهذا جواب في غاية الوهن ، فإن " كلمة الله " هي التي تكلم بها ، ولهذا أضيفت إليه .

وأما الإيجاب والقبول فكلمة المخلوق ، فلا تضاف إلى الله ، وإلا كان كل كلام تكلم به العبد يضاف إلى الرب ، وهذا باطل قطعا ، فإن كلمة الله كسمع الله ، وبصره ، وقدرته ، وحياته وعلمه ، وإرادته ، ومشيئته ، كل ذلك للصفات القائمة به ، لا للمخلوق المنفصل عنه .

والجواب الصحيح أن هذا خطاب للمسلمين ، ولا ريب أنهم إنما استحلوا فروج نسائهم بكلمة الله وإباحته .

أما المبتدأ نكاحها في الإسلام فظاهر ، وأما المستدام نكاحها فإنما استديم بكلمة الله أيضا ، فلا يمس الحديث محل النزاع بوجه .

وأما قولكم : كل آية أباحت النكاح في القرآن فالخطاب بها للمسلمين ، فهذا الاستدلال من أعجب الأشياء ، فإن الأمة بعد نزول القرآن مأخوذة بأحكامه ، وأوامره ، ونواهيه ، وأما قبل ذلك فما أقره القرآن فهو على ما أقره ، وما غيره وأبطله فهو كما غيره وأبطله ، فأين أبطل القرآن نكاح الكفار ، ولم يقرهم عليه في موضع واحد ؟ على أن البيع ، والرهن ، والمداينة ، والقرض ، وغيرها من العقود إنما خوطب بها المؤمنون ، فهل يقول أحد : إنها باطلة من الكفار ؟ وهل النكاح إلا عقد من عقودهم كبياعاتهم ، وإجاراتهم ، ورهونهم ، وسائر عقودهم ؟ وليس النكاح من قبيل العبادات المحضة التي يشترط في صحتها الإسلام ، كالصلاة والصوم والحج ، بل هو من عقود المعاوضات التي تصح من المسلم ، والكافر .

[ ص: 637 ] وأما قولهم : المسألة إجماع من الصحابة ، فهو ذلك الأثر الذي لا يصح عن عبد الرحمن ، ولو صح لم يكن فيه حجة فأين قول رجل واحد من الصحابة ، فضلا عن جميعهم ؟

وأما قولكم : كيف يحكم بصحة نكاح عري عن الولي ، والشهود ، وشروط النكاح ، فمن أضعف الاستدلال ، فإن هذه إنما صارت شروطا بالإسلام ، ولم تكن شروطا قبله حتى نحكم ببطلان كل نكاح وقع قبلها ، وإنما اشترطت في الإسلام في حق من التزم الإسلام ، وأما من لم يلتزمه فإن حكم النكاح بدونها كحكم ما يعتقدون صحته من العقود الفاسدة التي لا مساغ لها في الإسلام ، فإنها تصح منهم ، ولو أسلموا وقد تعاملوا بها وتقايضوا لم تنقض وأمضيت .

فإن قيل : الإسلام صححها لهم ، وهكذا صحح النكاح ، قلنا : لكن الإسلام لم يبطل ترتب آثارها عليها قبله ، فيجب ألا يبطل ترتب آثار النكاح عليه من الطلاق ، والظهار ، والإيلاء .

وأما استدلالكم بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " أيما امرأة نكحت نفسها بدون إذن وليها فنكاحها باطل " فهذا عجب منكم ، فإنها لو زوجها الولي كان النكاح فاسدا عندكم ، فإن قلتم : الولي الكافر كلا ولي ، قيل : نعم ، هذا في نكاح المسلمة ، فأما الكافرة فقد قال تعالى : ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ) .

[ ص: 638 ] وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " ففي غاية الصحة ، والاستدلال به ضعيف من وجوه .

أحدها : أن هذا في حق المسلمين ، وأما الكفار فإنا لا نرد عليهم كل ما خرج عن أمره - صلى الله عليه وسلم - فإنا نقرهم على عقودهم التي يعتقدون صحتها ، وإن لم تكن على أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - .

الثاني : أن إقرار الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لهم على أحكام هذه الأنكحة هو من أمر الشارع ، ولا جرم ما كان منها على غير أمره فهو رد ، كنكاح المحارم ، وما لا يعتقدون صحته ، فأما ما اعتقدوا صحته فإقرارهم عليه من أمره .

الثالث : أن هذا لا يمكن أن يستدل به على بطلان أنكحتهم ، كما لم يستدل به على بطلان عقود معاوضاتهم التي يعتقدون صحتها ، وإن وقعت على غير أمره .

وأما استبراء الحربية بحيضة إذا سبيت ، وحكمنا بزوال النكاح ، فليس ذلك لكون أنكحتهم كانت باطلة ، ولكن لتجديد الملك على زوجته ، وكونها صارت أمة للثاني ، واستولى على محل حق الكافر وأزاله ، وانتقلت من كونها زوجة إلى كونها أمة رقيقة تباع وتشترى .

وأما قوله تعالى عنهم : ( ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب ) فلم يزيدوا بذلك على كونهم كفارا . ومن نازع في كفرهم حتى يحتج عليه بذلك ؟ وهل وقع النزاع إلا [ ص: 639 ] في نكاح من هو كذلك ؟ ولا ريب أن هذا القدر كما لم يؤثر في بطلان عقود معاوضاته من البيع ، والشراء ، والإجارة ، والقرض ، والسلم ، والجعالة وغيرها لم يؤثر في بطلان نكاحه .

التالي السابق


الخدمات العلمية