صفحة جزء
118 - فصل

[ صحة العقود التي وقعت من أهل الذمة في الشرك ] .

ومن هذا أمر العقود التي وقعت منهم في الشرك فإن الذين أسلموا [ ص: 696 ] على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسأل أحدا منهم : كيف كان عقدك على امرأتك ؟ وهل نكحتها في عدتها أم بعد انقضاء عدتها ؟ وهل نكحت بولي وشهود أم لا ؟

ولا سأل من كان تحته أختان : هل جمعت بينهما في عقد واحد أم تزوجت واحدة بعد واحدة ؟ وقد أسلم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخلق الذين أسلموا ، ودخلوا في دين الله أفواجا ، ولم يسأل أحدا منهم عن صفة نكاحه ، بل أقرهم على أنكحتهم ، إلا أن يكون حين الإسلام أحدهم على نكاح محرم كنكاح أكثر من أربع ، أو نكاح أختين ، فكان يأمره أن يختار أربعا منهن ، وإحدى الأختين ، سواء وقع ذلك في عقد ، أو عقود ، وإن كان متزوجا بذات محرم كامرأة أبيه أمره بفراقها ، وهذا قول أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجمهور التابعين ، ومن بعدهم .

وأبو حنيفة ينظر إلى صفة العقد في الكفر : هل له مساغ في الإسلام أم لا ؟ فإن كان له مساغ صححه ، وإلا أبطله ، فإن تزوج أكثر من أربع في عقد واحد فسد نكاح الجميع ، وإن كان في عقود ثبت نكاح الأربع ، وقد فسد نكاح من بعدهن من غير تخيير ، وكذلك الأختان .

والذي مضت به السنة قول الجمهور كما في " السنن " من حديث [ ص: 697 ] الضحاك بن فيروز ، عن أبيه قال : أسلمت وعندي امرأتان أختان ، فأمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أطلق إحداهما .

وفي لفظ للترمذي : " اختر أيتهما شئت " .

قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ومحمد بن جعفر قالا : حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اختر منهن أربعا " ، فلما كان في عهد عمر طلق نساءه ، وقسم ماله بين بنيه ، فبلغ ذلك عمر - رضي الله عنه - فقال : إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع ، سمع بموتك فقذفه في نفسك ، ولعلك ألا تمكث إلا قليلا ، وايم الله لتراجعن نساءك ولترجعن في مالك ، أو لأورثهن ولآمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال .

قال أحمد : وحدثنا محمد بن جعفر ، ثنا معمر ، أخبرنا ابن شهاب الزهري ، عن سالم ، عن أبيه قال : أسلم غيلان بن سلمة ، وتحته عشر نسوة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اختر منهن أربعا " .

وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا عبد السلام ، حدثنا إسحاق بن [ ص: 698 ] عبد الله ، عن أبي وهب الجيشاني ، عن أبي خراش الرعيني ، عن الديلمي قال : قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعندي أختان تزوجتهما في الجاهلية ، فقال : " إذا رجعت فطلق إحداهما " .

ورواه الشالنجي ، عن الضحاك بن فيروز ، عن أبيه قال : أسلمت ، وعندي امرأتان أختان ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اختر إحداهما " .

وفي المسند من حديث قيس بن الحارث قال : أسلمت وتحتي [ ص: 699 ] ثمان نسوة ، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت له ذلك فقال : " اختر منهن أربعا " .

وحديث غيلان قد رواه الإمام أحمد ، والشافعي ، ومالك ، لكن مالكا أرسله عن الزهري ، ومعمر وصله ، وحكم الناس لمالك في إرساله ، وغلطوا معمرا في وصله ، وقالوا : هو غير محفوظ .

قال الأثرم : ذكرت لأبي عبد الله الحديث الذي رواه البصريون عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه : " أن غيلان أسلم وعنده عشر نسوة " أصحيح هو ؟ قال : لا ما هو صحيح .

[ ص: 700 ] قال مهنا : سألت أحمد ، عن حديث معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أن غيلان أسلم وعنده عشر نسوة " قال : ليس بصحيح ، والعمل عليه .

كان عبد الرزاق يقول : عن معمر ، عن الزهري مرسلا .

وقال مسلم بن الحجاج : هذا الحديث رواه معمر بالبصرة متصلا هكذا ، فإن رواه عنه ثقة خارج البصريين حكمنا له بالصحة ، أو قال : صار الحديث صحيحا ، وإلا فالإرسال أولى .

قال البيهقي : فوجدنا سفيان بن سعيد الثوري ، وعبد الرحمن بن محمد ، وعيسى بن يونس وثلاثتهم كوفيون حدثوا به عن معمر متصلا .

قال : ورواه يحيى بن أبي كثير ، وهو يمامي ، عن الفضل بن موسى ، وهو خراساني ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصح الحديث بذلك ، والله أعلم .

[ ص: 701 ] وقد قال النسائي : ثنا عمرو بن يزيد الجرمي ، ثنا سيف بن عبيد الله ، ثنا سرار بن مجشر ، عن أيوب ، عن نافع ، وسالم ، عن ابن عمر : " أن غيلان بن سلمة كان عنده عشر نسوة ، فأسلم وأسلمن معه ، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يختار منهن أربعا " .

قال البيهقي : قال لنا أبو عبد الله : رواة هذا الحديث كلهم ثقات ، [ ص: 702 ] تقوم بهم الحجة .

وقال أبو علي الحافظ : تفرد به سرار بن مجشر ، وهو بصري ثقة .

وبالجملة ، فشهرة القصة تغني عن إسنادها ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - خيره ، ولم يفرق بين الأوائل والأواخر ، ولم يستفصله ، ولو اختلف الحال لتعين الاستفصال ، فإن الرجل حديث عهد بالإسلام ، غير عارف بشرائع الأحكام ، وتفاصيل الحلال من الحرام ، فجعل الاختيار إليه ، ولم يحجر في ذلك عليه .

قال المنازعون : قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث بريدة ، ومعاذ ، وغيرهما الأمر بدعاء الكفار إلى أن يكون لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما على المسلمين ، والمسلم ليس له أن يتزوج أكثر من أربع ، ولا أختين في عقد واحد ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " وهذا نص في المسألة قاطع للنزاع .

قالوا : ونكاح الخمس في عقد واحد لا يختلف فيه حكم البقاء والدوام في المنع ، فكان باطلا كنكاح ذوات المحارم .

[ ص: 703 ] قالوا : ولا يرد علينا النكاح بغير شهود ولا ولي ، والنكاح في العدة ؛ لأن ذلك يمنع الابتداء دون البقاء .

قالوا : وليس تحريم الخامسة من جهة الجمع ، فلم يختلف فيه حال الابتداء والاستدامة ، والإسلام والكفر ، كعقد المرأة على زوجين .

قالوا : ولو باع ذمي درهما بدرهمين ، ثم أسلم قبل القبض لم يخير في أحد الدرهمين ، كذلك إذا أسلم وتحته أختان يجب ألا يخير في إحدى الأختين ، وبأن العقد على الخمس في حال الشرك لا يخلو من أحد أمرين :

إما أن تقولوا : إنه صحيح ، أو فاسد ، ولا يجوز أن يقال : إنه صحيح ، إذ لو كان كذلك لم يجز نقضه بعد الإسلام ، فثبت أنه فاسد ، وإذا كان فاسدا لم يصححه الإسلام ، كنكاح ذوات المحارم .

قالوا : ولأنه عقد على عدد محرم ، فلا يثبت فيه التخيير ، كعقد السلم .

[ ص: 704 ] قالوا : وأما الحديث ، فنحن أول آخذ به ، إذ المراد بقوله : " اختر منهن أربعا " ، تعقد عليهن عقدا جديدا . وكذلك قوله في الأختين : " اختر أيتهما شئت " ، إنما هو تخيير ابتداء ، لا تخيير استدامة ، لما ذكرنا من الأدلة ، ولو كان تخيير استدامة لاحتمل أن يكون غيلان عقد عليهن في الحال التي كان يجوز فيها العقد على أكثر من أربع ، وذلك في أول الإسلام ، فإن القصر على أربع إنما وقع في سورة النساء وهي مدنية بالاتفاق ، سلمنا انتفاء [ ص: 705 ] ذلك ، فيجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم صورة الحال ، وأنه تزوجهن في عقد واحد ، فأمره أن يختار منهن أربعا يبتدئ نكاحهن ، ولا سبيل إلى العلم بانتفاء هذا .

قال المصححون : الآن اشتد اللزام ، واحتد الخصام ، ووجب التحيز إلى فئة الحديث الذين قصدهم الانتصار له أين كان ، ومع من كان .

قالوا : وأما احتجاجكم بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين " فما أصحه من حديث ، وما أضعفه من استدلال ! وهل نازع في هذا مسلم حتى تحتجوا عليه به ؟ وهكذا نقول نحن ، وكل مسلم : إن الرجل إذا أسلم فحينئذ يصير له ما للمسلمين ، وعليه ما عليهم ، وأما قبل ذلك فلم يكن كذلك ، فالحديث حجة عليكم ، فإنه لم يقل : أخبرهم أن عليهم ما على المسلمين قبل الإسلام .

والذي على المسلم : أنه لا يمكن من العقد على أختين ابتداء ولا استدامة .

وهكذا قوله - صلى الله عليه وسلم - " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " ، وليس أمره - صلى الله عليه وسلم - على الجمع بين الأختين والتزوج بأكثر من أربع ، فلذلك كان ردا بالإسلام ، وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يقل : إن ما كان في الجاهلية مما يخالف أمري ومضى ، وانقضى فهو رد ، وإنما يرد منه ما قام الإسلام وهو على خلاف أمره ، وهكذا فعل سواء ، فإنه أبطل نكاح إحدى الأختين ، وما زاد على الأربع ، إذ ذلك خلاف أمره ، وجعل الخيرة في الممسكات إلى الزوج ، وهذا نفس أمره ، فما خالف هذا وهذا فهو رد ، فالحديث حجة على بطلان قولكم ، وبالله التوفيق .

[ ص: 706 ] وأما قولكم : إن نكاح الخمس في عقد واحد لا يختلف فيه حكم الابتداء ، والدوام ، فكان باطلا كنكاح ذوات المحارم ، فجوابه من وجوه :

أحدها : أن تحريم ما زاد على الأربع إنما كان من جهة الزيادة على العدد المباح ، والزيادة يمكن إبطالها دون النصاب ، فإن المفسدة تختص بها ، فلا معنى لتعدية الإبطال إلى النصاب ، فإن في ذلك إضرارا به ، وتنفيرا له عن الإسلام من غير مصلحة ، وقد أمكن إزالة المفسدة بمفارقة ما زاد على النصاب ، فيبقى النكاح في حق الأربع صحيحا ، فهذا محض القياس ، كما أنه مقتضى السنة . وهذا بخلاف نكاح ذوات المحارم ، فإن المفسدة التي فيه لا تزول إلا ببطلان النكاح ، لقيام سبب التحريم .

الوجه الثاني : أن تحريم الزائد على أربع إنما نشأ من جهة انضمامه إلى القدر الجائز ، وإلا فكل واحدة منهن لو انفردت صح العقد عليها ، بخلاف تحريم ذوات المحارم ، فإنه ثابت لذاتها وعينها ، فقياس أحد النوعين على الآخر فاسد .

الوجه الثالث : أن تحريم الزائد على الأربع أخف من تحريم ذوات المحارم ، ولهذا أبيح لنبينا - صلى الله عليه وسلم - الزيادة على أربع ، ولم تبح [ ص: 707 ] [ ص: 708 ] له ذوات المحارم ، فلا يصح اعتبار أحد النوعين بالآخر ، ونحن لا ننظر إلى ابتداء العقد كيف وقع ، بل إلى حاله عند الإسلام ، ولهذا قد ساعدتم على أنه لو تزوجها بغير ولي ولا شهود ولا مهر ، أو في عدة ، ثم انقضت ، أو بغير تراض لم يبطله الإسلام ، فلذلك إذا عقد على خمس لم نبطله بالإسلام ، وإنما يبطل الزائد على النصاب .

وأما قولكم : إن تحريم الزائد على الأربع إنما كان من جهة الجمع ، فلم يفترق الحال فيه بين الابتداء ، والاستدامة ، كعقد المرأة على زوجين ، فما أفسده من قياس ! فإن هذا مما لم تختلف فيه الشرائع ولا الطبائع ، ولا تسوغه أمة من الأمم على اختلاف أديانها وآرائها .

وأما الجمع بين الأختين ، وبين أكثر من أربع فقد كان جائزا في بعض الشرائع ، كما قال تعالى : ( وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ) ، والجمع بين أكثر من أربع قد فعله داود ، وسليمان ، وخاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .

وبالجملة ، فعقد الرجل على أكثر من امرأة مصلحة راجحة ، وعقد المرأة على أكثر من رجل مفسدة خالصة ، أو راجحة ، فاعتبار أحدهما بالآخر فاسد عقلا ، وطبعا ، وشرعا .

وأما قولكم : لو باع ذمي درهما بدرهمين ، ثم أسلم لم يخير في أحد الدرهمين ، كذلك لا يخير في الأختين ، فما أفسده من قياس ! فإن الصرف إذا لم يقبض لم يلزم في العقد إن قبضه ، ثم أسلم أن يفسخ العقد ، فإنهم إذا [ ص: 709 ] تعاقدوا عقود الربا وتقابضوا ، ثم أسلموا لم نفسخها ، وإن لم يتقابضوا لم نمضها ، وهكذا النكاح ، فإنه إذا اتصل به الدخول ، وسبب التحريم قائم ، أبطلناه ، وإن كان قد انقضى لم نعرض له . وإنما لم نخيره في أحد الدرهمين ، وخيرناه في إحدى الأختين ؛ لأنه لا فائدة له في تخييره في أحد الدرهمين ، ولا غرض له في ذلك ، ولا مصلحة ، بخلاف تخييره بين إحدى الأختين ، على أنه لا يمتنع أن يخير العقد في درهم بدرهم ، ويجعل له الخيار في أيهما شاء ، فنفي الحكم في ذلك غير معلوم بنص ولا إجماع .

وأما قولكم : العقد على الخمس في حال الشرك إما أن يقع صحيحا ، أو فاسدا . . . إلى آخره ، فجوابه من وجهين :

أحدهما : أنه صحيح في الجميع ، فإذا أسلم فسخ العقد في إحداهن : هذا جواب القاضي أبي يعلى .

قال : " وقد نص أحمد على هذا : إذا تزوج الحربي أما وبنتا ، ثم أسلم قبل الدخول ، انفسخ نكاح الأم " .

قال : " وهذا يدل على أنه قد صح النكاح في البنت حتى صارت هي من أمهات النساء فحرمت عليه ، ولو لم يكن صحيحا فيهما كان له أن يختار أيهما شاء ، لأنها لم تكن من أمهات النساء ، والجمع بين الأم والبنت في العقد كالجمع بين خمسة " .

قال : " وإنما حكمنا بصحة العقد في الجميع ؛ لأن له أن يختار الخامسة بعد إسلامه ، ويستديم نكاحها على حديث غيلان وغيره ، ولا يجوز أن يستديم نكاحا حكمنا بفساده " .

[ ص: 710 ] وقولكم : إنه لو كان صحيحا لم يجز تغييره ، ونقضه بعد الإسلام ، كما لو عقد على أربع لا يصح ؛ لأن الإسلام لا يغير ما يطابق حكم الإسلام ، وما زاد على الأربع يخالف حكمه ، فلهذا غيره كما لو تعاقدا عقد صرف ، وأسلما قبل التقابض حكمنا بفساده ، وإن كان الصرف في الجملة جائزا ، ولأنه لو أسلم الوثني قبل الدخول انفسخ النكاح بعد الحكم بصحته ، ولأن تغييره بعد الإسلام إنما هو إلزام ، ولا يمتنع أن يوجب الإسلام إزالة أشياء لم تكن حال الكفر كالعبادات .

وعندي جواب آخر : وهو أن العقد الذي وقع في حال الكفر - على هذا الوجه - لا يحكم له بصحة ، ولا فساد ، بل يقرون عليه كما يقرون على كفرهم ، فإن استمروا على الكفر لم نتعرض لعقودهم ، وإن أسلموا حكم ببطلان ما يقتضي الإسلام بطلانه - من حين الإسلام لا قبل ذلك - كالحكم في سائر عقودهم من بياعاتهم وغيرها ، فما كان قبل الإسلام فهو عفو لا نحكم له بأحكام الإسلام ، قال الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ) ، فأمر بترك ما بقي دون رد ما قبض ، ولم يكن صحيحا ، بل كان عفوا كما قال سبحانه : ( فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ) ، فجعل له ما سلف من الربا ، وإن لم يكن مباحا له ، وكذلك سائر العقود له ما سلف منها ، ويجب عليه ترك ما يحرمه الإسلام ، وهذه الآية هي الأصل في هذا الباب جميعه ، فإنه تعالى لم يبطل ما وقع في الجاهلية على خلاف شرعه ، وأمر بالتزام شرعه من حين قام [ ص: 711 ] الشرع ، ومن تأمل حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في باب أنكحة الكفار إذا أسلموا عليها وجده مشتقا من القرآن مطابقا له .

وأما قولكم : إنه عقد على أكثر من أربع ، فلم يصح فيه التخيير ، كعقد السلم ، فهل في القياس أفسد من هذا ؟ وهل يمكن أحدا أن يطرد هذا القياس فيفسخ كل نكاح وقع في الشرك ، وكل بيع ، وكل إجارة ، وكل عقد لم يستوف شروطه في الإسلام كالنكاح بلا ولي ، ولا شهود ، ولا مهر ، وكل عقد فاسد وقع فيه التقابض ؟ !

وأما قولكم : إنكم أول من أخذ بالحديث ، فكلا بل أول من تلطف في رده بما لا يرد به ، وما تأولتم به الحديث من أن المراد به " تخييره في ابتداء العقد على من شاء منهن " باطل لوجوه .

أحدها : قوله في بعض ألفاظه : " أمسك أربعا وفارق سائرهن " ، وهذا يقتضي إمساكهن بالعقد الأول ، كما قال تعالى : ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك ) ، وقوله : ( فإمساك بمعروف ) ، ولا يعقل الإمساك غير هذا .

فإن قلتم : يعني : " أمسك أربعا منهن " تزوج أربعا ، خرج اللفظ عن القياس إلى الألغاز واللبس الذي يتنزه عنه كلام المبين عن الله .

[ ص: 712 ] الثاني : أنه جعل الإمساك ، والاختيار إليه ، ولو كان المراد به العقد لكان الاختيار إليهن لا إليه ؛ لأنه لا يعقد عليهن إلا برضاهن .

الثالث : أنه أمره بالاختيار ، وذلك واجب عليه ، ولو كان المراد تجديد العقد لم يجب عليه ، ولهذا لو أبى الاختيار أجبره عليه الحاكم ، فإن امتنع ضربه حتى يختار لأنه واجب عليه .

الرابع : أن هذا التأويل لا يصح عندكم إلا إذا كان قد تزوجهن في عقد واحد ، فأما إذا تزوجهن بعقود متفرقة ، فإنه يصح نكاح الأربع الأول ، ويبطل نكاح من عداهن ، وحينئذ فيكون المراد من الحديث : إذا كنت قد تزوجتهن في عقد واحد ، فنكاح الجميع باطل ، وذلك أن يتزوج أربعا منهن . ومعلوم أن هذا لا يفهم أصلا من قوله : " اختر أربعا ، وفارق سائرهن " ، ولا يفهم المخاطب ولا غيره هذا المعنى من هذا اللفظ ألبتة .

الخامس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسأل هذا الحديث العهد بالإسلام الجاهل بالأحكام عن كيفية عقده ، ولا استفصله .

السادس : ما رواه الشافعي :

[ ص: 713 ] عن عوف بن الحارث ، عن نوفل بن معاوية الديلي قال : " أسلمت وعندي خمس نسوة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أمسك أربعا ، وفارق الأخرى " فعمدت إلى أقدمهن صحبة : عجوز عاقر ، معي منذ ستين سنة ، ففارقتها " . ففهم المخاطب من هذا اللفظ حقيقته ، وعمل بها .

[ ص: 714 ] [ ص: 715 ] السابع : أنه قال للذي أسلم على أختين : " طلق أيتهما شئت " ، وهذا لا معنى له على قول المنازع ، فإنه إن تزوج إحداهما بعد الأخرى فنكاح الثانية باطل ، وليست محلا للطلاق ، وإن تزوجهما معا فنكاحهما عنده باطل ، وليست واحدة منهما محلا للطلاق .

الثامن : أن في بعض طرق الحديث : " أمسك إحداهما " ، وهذا على قولكم لا يتأتى ، فإنه إن جمعهما في عقد لم يكن له سبيل على واحدة منهما حتى يمسكهما ، وإن سبق عقد إحداهما الأخرى كان الواجب عندكم أن يقال : أمسك الأولى دون الثانية ، وهذا لا يصح أن يعبر عنه بقوله : " أمسك إحداهما وأيتهما شئت " .

وأما قولكم : إن هذا يجوز أن يكون في الوقت الذي كان يجوز فيه العقد على أكثر من أربع ، فجوابه من وجوه :

أحدها : أنه لا يعلم أنه كان العقد على أكثر من أربع جائزا في وقت من الأوقات في الإسلام ، لا قبل الهجرة ، ولا بعدها ، ولو كان ذلك لنقل مع ما نقل من الناسخ ، والمنسوخ ، ولم ينقل أحد هذا قط .

فإن قيل : نحن لم ندع أن ذلك أبيح لفظا ، ثم نسخ ، بل كان على أصل الإباحة والعفو حتى حرمه القرآن ، قيل : هذا لا يصح ، فإن الأصل في الفروج التحريم إلا ما أباحه الله ورسوله ، كما أن الأصل في العبادات البطلان إلا ما شرعه الله ورسوله ، وعكس هذا العقود والمطاعم ، الأصل فيها الصحة والحل إلا ما أبطله الله ورسوله وحرمه ، وهذا تقرر في موضعه .

[ ص: 716 ] الثاني : أن هذا لو كان مشروعا ، أو مباحا إباحة العفو لكان في المسلمين ولو رجل واحد يفعله في الإسلام قبل التحريم ، مع حرصهم على النكاح ، والاستكثار منه . ألا ترى أنهم فعلوا المتعة لما كانت مباحة ، وشرب الخمر منهم من شربها قبل التحريم .

الثالث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسأله عن وقت العقد : هل كان قبل التحريم ، أو بعده ؟ كما لم يسأله عن كيفيته .

الرابع : أن هذا لا يصح على أصول المنازع ، فإن أبا حنيفة قال : إذا تزوج الحر بأربع نسوة ثم استرق ، فإنه يبطل نكاحهن ، ومعلوم أنه إنما حرم عليه نكاح ما زاد على الثنتين بالاسترقاق ، ونكاح الأربع وقع في الوقت الذي كان يجوز له فيه نكاحهن ، فكان يجب - على ما ذكروا من التأويلات - أن يختار منهن اثنتين ؛ لأنه عقد على أربع في حال كان ذلك مباحا له فيها ، ثم ورد التحريم . وهذه المسألة ذكرها محمد بن الحسن في " الجامع الكبير " .

وأما قولكم : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجوز أن يكون علم الحال ، وأنه تزوجهن في عقد واحد ، فخيره بين أربع يبتدئ نكاحهن ، فهو باطل من الوجوه التي تقدمت .

ونزيدها هاهنا وجها آخر : وهو أن ذلك يتضمن تعليق الحكم على غير السبب المذكور في الحديث ، وإلغاء السبب الذي ذكر فيه ، وهذا باطل من الوجهين جميعا ، فإنه إنما علق الاختيار بكونه أسلم على أكثر من أربع ، [ ص: 717 ] وعندكم الاختيار إنما علق على اجتماعهن في عقد واحد لو كان اختيارا . وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية