صفحة جزء
166 - فصل

[ ذكر الخلاف في توريث المسلم من الكافر ] .

وأما توريث المسلم من الكافر فاختلف فيه السلف ، فذهب كثير منهم إلى أنه لا يرث كما لا يرث الكافر المسلم : وهذا هو المعروف عند الأئمة الأربعة ، وأتباعهم .

وقالت طائفة منهم : بل يرث المسلم الكافر ، دون العكس ، وهذا قول معاذ بن جبل ، ومعاوية بن أبي سفيان ، ومحمد بن الحنفية ، ومحمد بن علي بن الحسين ، وسعيد بن المسيب ، ومسروق بن الأجدع ، وعبد الله بن مغفل ، ويحيى بن يعمر ، وإسحاق بن راهويه . وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية . قالوا : نرثهم ولا يرثوننا ، كما ننكح نساءهم ، ولا ينكحون نساءنا .

والذين منعوا الميراث : عمدتهم الحديث المتفق عليه : " لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم " . وهو عمدة من منع ميراث المنافق الزنديق ، وميراث المرتد .

قال شيخنا : وقد ثبت بالسنة المتواترة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجري الزنادقة المنافقين في الأحكام الظاهرة مجرى المسلمين فيرثون [ ص: 854 ] ويورثون . وقد مات عبد الله بن أبي ، وغيره ممن شهد القرآن بنفاقهم ، ونهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة عليه ، والاستغفار له ، وورثهم ورثتهم المؤمنون : كما ورث عبد الله بن أبي ابنه ، ولم يأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من تركة أحد من المنافقين شيئا ، ولا جعل شيئا من ذلك فيئا ، بل أعطاه لورثتهم ، وهذا أمر معلوم بيقين ، فعلم أن الميراث مداره على النصرة الظاهرة لا على إيمان القلوب ، والموالاة الباطنة ، والمنافقون في الظاهر ينصرون المسلمين على أعدائهم ، وإن كانوا من وجه آخر يفعلون خلاف ذلك ، فالميراث مبناه على الأمور الظاهرة لا على إيمان القلوب ، والموالاة الباطنة ، والمنافقون في الظاهر ينصرون المسلمين على أعدائهم ، وإن كانوا من وجه آخر يفعلون خلاف ذلك ، فالميراث مبناه على الأمور الظاهرة لا على ما في القلوب .

وأما المرتد فالمعروف عن الصحابة مثل علي ، وابن مسعود : أن ماله [ ص: 855 ] لورثته من المسلمين أيضا ، ولم يدخلوه في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يرث المسلم الكافر " . وهذا هو الصحيح .

وأما أهل الذمة فمن قال بقول معاذ ، ومعاوية ، ومن وافقهما : يقول قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا يرث المسلم الكافر " المراد به الحربي لا المنافق ، ولا المرتد ، ولا الذمي : فإن لفظ " الكافر " - وإن كان قد يعم كل كافر - فقد يأتي لفظه ، والمراد به بعض أنواع الكفار ، كقوله تعالى : ( إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ) ، فهنا لم يدخل المنافقون في لفظ " الكافرين " ، وكذلك المرتد ، فالفقهاء لا يدخلونه في لفظ " الكافر " عند الإطلاق ، ولهذا يقولون : إذا أسلم الكافر لم يقض ما فاته من الصلاة ، وإذا أسلم المرتد ففيه قولان .

وقد حمل طائفة من العلماء قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا يقتل مسلم بكافر " ، على الحربي دون الذمي ، ولا ريب أن حمل قوله : " لا يرث المسلم الكافر " على الحربي أولى ، وأقرب محملا ، فإن في توريث المسلمين منهم ترغيبا في الإسلام لمن أراد الدخول فيه من أهل الذمة ، فإن كثيرا منهم يمنعهم من الدخول في الإسلام خوف أن يموت أقاربهم ، ولهم أموال فلا يرثون منهم شيئا .

وقد سمعنا ذلك منهم من غير واحد منهم شفاها ، فإذا علم أن إسلامه لا يسقط ميراثه ضعف المانع من الإسلام وصارت رغبته فيه قوية ، وهذا [ ص: 856 ] وحده كاف في التخصيص ، وهم يخصون العموم بما هو دون ذلك بكثير ، فإن هذه مصلحة ظاهرة يشهد لها الشرع بالاعتبار في كثير من تصرفاته ، وقد تكون مصلحتها أعظم من مصلحة نكاح نسائهم ، وليس في هذا ما يخالف الأصول ، فإن أهل الذمة إنما ينصرهم ، ويقاتل عنهم المسلمون ، ويفتدون أسراهم ، والميراث يستحق بالنصرة ، فيرثهم المسلمون ، وهم لا ينصرون المسلمين ، فلا يرثونهم ، فإن أصل الميراث ليس هو بموالاة القلوب ، ولو كان هذا معتبرا فيه كان المنافقون لا يرثون ، ولا يورثون ، وقد مضت السنة بأنهم يرثون ويورثون .

وأما المرتد فيرثه المسلمون ، وأما هو فإن مات له ميت مسلم في زمن الردة ومات مرتدا لم يرثه لأنه لم يكن ناصرا له ، وإن عاد إلى الإسلام قبل قسمة الميراث فهذا فيه نزاع بين الناس .

وظاهر مذهب أحمد : أن الكافر الأصلي والمرتد إذا أسلما قبل قسمة الميراث ، ورثا ، كما هو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين ، وهذا يؤيد هذا الأصل ، فإن هذا فيه ترغيب في الإسلام ، وقد نقل عن علي في الرقيق إذا كان ابنا للميت : " أنه يشترى من التركة ويرث ! " .

قال شيخنا : " ومما يؤيد القول بأن المسلم يرث الذمي ، ولا يرثه الذمي ، أن الاعتبار في الإرث بالمناصرة ، والمانع هو المحاربة . ولهذا قال أكثر [ ص: 857 ] الفقهاء : إن الذمي لا يرث الحربي ، وقد قال تعالى في الدية : ( فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ) ، فالمقتول - إن كان مسلما - فديته لأهله ، وإن كان من أهل الميثاق فديته لأهله ، وإن كان من قوم عدو للمسلمين فلا دية له ؛ لأن أهله عدو للمسلمين وليسوا بمعاهدين ، فلا يعطون ديته ، ولو كانوا معاهدين لأعطوا الدية ، ولهذا لا يرث هؤلاء المسلمين ، فإنهم ليس بينهم وبينهم إيمان ولا أمان ، ولهذا لما مات أبو طالب ورثه عقيل دون علي وجعفر ، مع أن هذا كان في أول الإسلام ، وقد ثبت في الصحيح أنه قيل له - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع : " ألا تنزل في دارك ؟ " فقال : " وهل ترك لنا عقيل من رباع ؟ " وذلك لاستيلاء عقيل على رباع بني هاشم لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس هو لأجل ميراثه ، فإنه أخذ دار النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كانت له ، التي ورثها من أبيه ، وداره التي كانت لخديجة ، وغير ذلك مما لم يكن لأبي طالب ، فاستولى على رباع بني هاشم بغير طريق الإرث ، بل كما استولى سائر المشركين على ديار المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ، وأموالهم ، كما استولى أبو سفيان بن حرب على دار أبي أحمد بن جحش ، وكانت دارا عظيمة ، فكان المشركون - لما هاجر المسلمون - من [ ص: 858 ] كان له قريب أو حليف استولى على ماله ، ثم لما أسلموا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من أسلم على شيء فهو له " ، ولم يرد إلى المهاجرين دورهم التي أخذت منهم ، بل قال : " هذه أخذت في الله ، أجورهم فيها على الله " ، وقال لابن جحش : " ألا ترضى أن يكون لك مثلها في الجنة ؟ ! "

وكان المسلمون ينتظرون ما يأمر به في دار ابن جحش ، فإن ردها عليه طلبوا هم أن يرد عليهم ، فأرسل إليه مع عثمان هذه الرسالة ، فسكت وسكت المسلمون ، وهذا كان عام الفتح ، فلما دخل مكة في حجة الوداع قيل له : ألا تنزل في دارك ؟ فقال : " وهل ترك لنا عقيل من دار ؟ ! "

قال الشيخ : " وهذا الحديث قد استدل به طوائف من مسائل :

التالي السابق


الخدمات العلمية