صفحة جزء
[ ص: 969 ] 181 - فصل

[ ضلال القدرية في معنى ( الفطرة ) والرد عليهم ] .

قال شيخنا : واعلم أن هذا الحديث لما صارت القدرية يحتجون به على قولهم الفاسد ، صار الناس يتأولونه تأويلات يخرجونه بها عن مقتضاه ، فالقدرية من المعتزلة ، وغيرهم يقولون : كل مولود يولد على الإسلام ، والله لا يضل أحدا ، ولكن أبواه يضلانه ، والحديث حجة عليهم من وجهين :

أحدهما : أنه عند المعتزلة وغيرهم من المتكلمين لم يولد أحد منهم على الإسلام أصلا ، ولا جعل الله أحدا مسلما ، ولا كافرا ، ولكن هذا أحدث لنفسه الكفر ، وهذا أحدث لنفسه الإسلام ، والله لم يفعل واحدا منهما عندهم بلا نزاع عند القدرية ، ولكن هو دعاهما إلى الإسلام ، وأزاح عللهما ، وأعطاهما قدرة مماثلة فيهما تصلح للإيمان ، والكفر ، ولم يختص المؤمن بسبب يقتضي حصول الإيمان ، فإن ذلك عندهم غير مقدور ، ولو كان مقدورا لكان ظلما ، وهذا قول عامة المعتزلة ، وإن كان بعض متأخريهم كأبي الحسين يقول : إنه خص المؤمن بداعي الإيمان ، ويقول : عند الداعي [ ص: 970 ] والقدرة يجب وجود الإيمان ، فهذا في الحقيقة موافق لأهل السنة ، فهذا أحد الوجهين .

الثاني : أنهم يقولون إن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر المشروط بالعقل ، فيستحيل أن تكون المعرفة عندهم ضرورية ، أو تكون من فعل الله تعالى ، وإن احتجت القدرية بقوله : " فأبواه يهودانه ، وينصرانه ، ويمجسانه " من جهة كونه أضاف التغيير إلى الأبوين ، يقال لهم : أنتم تقولون إنه لا يقدر الله ولا أحد من مخلوقاته على أن يجعلهما يهوديين ولا نصرانيين ، ولا مجوسيين ، بل هما فعلا بأنفسهما ذلك بلا قدرة من غيرهما ، ولا فعل من غيرهما ، فحينئذ لا حجة لكم في قوله : " فأبواه يهودانه ، وينصرانه ، ويمجسانه " .

وأهل السنة متفقون على أن غير الله لا يقدر على جعل الهدى ، والضلال في قلب أحد ، فقد اتفقت الأمة على أن المراد بذلك دعوة الأبوين إلى ذلك ، وترغيبهما فيه ، وتربية الولد عليه ، كما يفعل المعلم بالصبي ، وذكر الأبوين بناء على الغالب المعتاد ، وإلا فقد يقع ذلك من أحدهما ، ومن غيرهما حقيقة وحكما .

قال محمد بن نصر : واحتج ابن قتيبة بقوله : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) ، فأجابوا بكلام شاهدين مقرين على أنفسهم بأن الله [ ص: 971 ] ربهم ، ثم ولدوا على ذلك .

قال محمد بن نصر : فقوله : " ثم ولدوا على ذلك " زيادة منه ليست في الكتاب ، ولا جاءت في شيء من الأخبار .

وسنذكر الأخبار المروية في تأويل هذه الآية لنبين للناظر فيها أنه لا حجة له فيها ، وأنه لا دليل في شيء منها أن الأطفال يولدون ، وهم عارفون بالله من وقت سقوطهم من بطون أمهاتهم .

قلت : قوله : " ثم ولدوا على ذلك " إن أراد به أنهم ولدوا حال سقوطهم وخروجهم من بطون أمهاتهم عالمين بالله ، وتوحيده ، وأسمائه ، وصفاته فقد أصاب في الرد عليه ، وإن أراد أنهم ولدوا على حكم ذلك الأخذ ، وأنهم لو تركوا لما عدلوا عنه إذا عقلوا ، فهو الصواب الذي لا يرد .

قال محمد : فمن أجل ما روي في تأويل هذه الآية حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : حدثنا يحيى قال : قرأت على مالك ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن

[ زيد ] بن الخطاب
، عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سئل عن هذه الآية : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) ، فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عنها ؟ فقال : " إن الله تعالى خلق آدم ، ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذرية ، فقال : خلقت هؤلاء للجنة ، وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنار ، وبعمل أهل النار يعملون ، فقال رجل : يا رسول الله ففيم [ ص: 972 ] العمل ؟

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من عمل أهل الجنة فيدخل به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار ، فيدخل به النار
.

[ ص: 973 ] [ ص: 974 ] حدثنا محمد بن يحيى ، ثنا محمد بن يزيد بن سنان الرهاوي ، عن أبيه ، أخبرنا زيد بن أبي أنيسة ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن ، عن مسلم بن يسار ، عن نعيم بن ربيعة الأزدي ، قال مسلم : سألت نعيما ، عن هذه الآية ، فقال نعيم : كنت عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فجاء رجل فسأله عنها ؟ فقال . . . الحديث ، وهذا يبين علة الحديث الأول ، وأن مسلم بن يسار لم يسمعه من عمر .

[ ص: 975 ] قال : وحدثنا إسحاق ، أخبرنا حكام بن سلم ، عن عنبسة ، عن

[ عمارة ] بن عمير ، عن أبي محمد رجل من أهل المدينة قال : سألت عمر بن الخطاب عن قوله تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) [ ص: 976 ] فقال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها كما سألتني ، فقال : " خلق الله آدم بيده ، ونفخ فيه من روحه ، ثم أجله فمسح ظهره ، فأخرج ذرا ، فقال : ذر ذراتهم للجنة يعملون بما شئت من عمل ، ثم أختم لهم بأحسن أعمالهم فأدخلهم الجنة ، ثم مسح ظهره فأخرج ذرا ، فقال : ذر ذراتهم للنار يعملون بما شئت من عمل ، ثم أختم لهم بأسوأ أعمالهم فأدخلهم النار " .

قلت : هذا الحديث أدخله مالك في " موطئه " على ما فيه من العلة ، ونحن نذكر علته .

قال الترمذي : هذا حديث حسن ، مسلم بن يسار لم يسمعه من عمر ، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلا

[ مجهولا ] .

[ ص: 977 ] وقال أبو القاسم حمزة بن محمد الكناني : لم يسمع مسلم بن يسار هذا من عمر ، رواه عن نعيم ، عن عمر .

وقال ابن أبي خيثمة : قرأت على يحيى بن معين حديث مالك ، عن زيد بن أبي أنيسة ، فكتب بيده على مسلم بن يسار : " لا يعرف " .

[ ص: 978 ] وقال أبو عمر : " هذا حديث منقطع بهذا الإسناد ؛ لأن مسلم بن يسار هذا لم يلق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وبينهما في هذا الحديث نعيم بن ربيعة ، وهذا أيضا - مع هذا الإسناد - لا تقوم به حجة ، ومسلم بن يسار هذا مجهول ، قيل : إنه مدني ، وليس بمسلم بن يسار البصري " .

قال : " وجملة القول في هذا الحديث أنه حديث ليس إسناده بالقائم ؛ لأن مسلم بن يسار ونعيم بن ربيعة جميعا غير معروفين بحمل العلم .

ولكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه ثابتة كثيرة يطول ذكرها من حديث عمر بن الخطاب وغيره . " [ ص: 979 ] انتهى .

ونحن نذكر بعض تلك الأحاديث .

قال إسحاق بن راهويه : أخبرنا بقية بن الوليد قال : أخبرني الزبيدي محمد بن الوليد ، عن راشد بن سعد ، عن عبد الرحمن بن قتادة [ ص: 980 ]

[ النصري ]
، عن أبيه ، عن هشام بن حكيم بن حزام : أن رجلا قال : يا رسول الله ، أتبتدأ الأعمال ، أم قد قضي القضاء ؟ فقال : " إن الله لما أخرج ذرية آدم من ظهره أشهدهم على أنفسهم ، ثم أفاض بهم في كفيه فقال : هؤلاء للجنة ، وهؤلاء للنار ، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة ، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار .

أخبرنا عبد الصمد ، ثنا حماد ، ثنا [ الجريري ] ، عن أبي نضرة أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له : أبو عبد الله دخل عليه أصحابه يعودونه ، وهو يبكي ، فقالوا : ما يبكيك ؟ قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله قبض قبضة بيمينه ، وأخرى بيده [ ص: 981 ] الأخرى ، فقال : هذه لهذه ، وهذه لهذه ، ولا أبالي " فلا أدري في أي القبضتين أنا .

أخبرنا عمرو بن محمد ، ثنا إسماعيل بن رافع ، عن المقبري ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله خلق آدم من تراب ، ثم جعله طينا ، ثم تركه حتى إذا كان حمأ مسنونا ، ثم خلقه ، وصوره ، ثم تركه حتى إذا كان صلصالا كالفخار كان إبليس يمر به فيقول : خلقت لأمر عظيم ، ثم نفخ الله فيه من روحه . قال : يا رب ما ذريتي ؟ قال : اختر يا آدم . قال : أختار يمين ربي - وكلتا يدي ربي يمين - ثم بسط الله [ ص: 982 ] كفه فإذا كل من هو كائن من ذريته في كف الرحمن " .

أخبرنا النضر ، أخبرنا أبو معشر ، عن سعيد المقبري ، ونافع مولى الزبير ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " لما أراد الله أن يخلق آدم - فذكر خلق آدم - فقال له : يا آدم ، أي يدي أحب إليك أن أريك ذريتك فيها ؟ فقال : يمين ربي - وكلتا يدي ربي يمين - فبسط يمينه ، فإذا فيها ذريته كلهم : ما هو خالق إلى يوم القيامة ، الصحيح على هيئته ، والمبتلى على هيئته ، والأنبياء على هيئاتهم ، فقال : ألا أغنيتهم كلهم ؟ فقال : إني أحببت أن أشكر . . . . " وذكر [ ص: 983 ] الحديث .

وقال محمد بن نصر : ثنا محمد بن يحيى ، ثنا سعيد بن أبي مريم ، أخبرنا الليث بن سعد ، حدثني ابن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن عبد الله بن سلام قال : خلق الله آدم ، ثم قال : بيديه ، فقبضهما ، فقال : اختر يا آدم ، فقال : اخترت يمين ربي ، وكلتا يديك يمين ، فبسطها ، فإذا فيها ذريته ، فقال من هؤلاء يا رب ؟ قال : من قضيت أن أخلق من ذريتك من أهل الجنة إلى أن تقوم الساعة .

[ ص: 984 ] حدثنا إسحاق ، ثنا جعفر بن عون الخزاعي ، أخبرنا هشام بن

[ سعد
] ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة . . . " وذكر الحديث .

[ ص: 985 ] ثنا إسحاق ، وعمرو بن زرارة قال : أنا إسماعيل ، عن كلثوم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) الآية ، قال : مسح ربك ظهر آدم فخرجت منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة ، بـ " نعمان " هذا الذي وراء عرفة فأخذ ميثاقهم ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا .

ثنا إسحاق ، ثنا وكيع ، ثنا ربيعة بن كلثوم بن جبر ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) الآية ، قال : مسح الله ظهر آدم وهو ببطن نعمان - واد - إلى جنب عرفة فأخرج من ظهر آدم ذريته [ ص: 986 ] فأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا .

ثم ساقه إسحاق من طرق متعددة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ثم قال :

أخبرنا المخزومي - وهو المغيرة بن سلمة - ثنا أبو هلال ، عن أبي جمرة الضبعي ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : مسح الله ظهر آدم ، فأخرج [ ص: 987 ] ذريته في

[ آذي ] من الماء .

أخبرنا جرير ، عن الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : مسح الله ظهر آدم ، فخرجت منه كل ذرية بددا إلى يوم القيامة فعرضوا عليه .

[ ص: 988 ] حدثنا الملائي ، ثنا المسعودي ، عن علي بن بذيمة ، عن سعيد ، عن ابن عباس في قوله تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم ) الآية ، قال : إن الله أخذ على آدم ميثاقه أنه ربه ، وكتب أجله ورزقه ومصيباته ، ثم أخرج من ظهره ولده كهيئة الذر ، فأخذ عليهم الميثاق أنه ربهم ، فكتب أجلهم ورزقهم ومصيباتهم .

حدثنا وكيع ، ثنا الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : مسح الله ظهر آدم ، فأخرج كل طيب في يمينه ، وفي يده الأخرى كل خبيث .

[ ص: 989 ] ثنا يحيى ، ثنا المسعودي ، أخبرني علي بن بذيمة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في هذه الآية قال : خلق الله آدم ، فأخذ ميثاقه أنه ربه ، وكتب أجله ورزقه ومصيبته ، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر ، فأخذ مواثيقهم أنه ربهم ، فكتب آجالهم ، وأرزاقهم ، ومصيباتهم .

وقال عبد الرزاق : حدثنا معمر ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في هذه الآية قال : مسح الله على صلب آدم ، فأخرج من صلبه ما يكون من ذريته إلى يوم القيامة ، وأخذ ميثاقهم أنه ربهم فأعطوه ذلك ، فلا يسأل أحدا - كافرا أو غيره - من ربك ؟ إلا قال : الله .

قال معمر : وكان الحسن يقول مثل ذلك .

[ ص: 990 ] قال إسحاق : وأخبرنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم ) الآية ، قال : أخذهم كما يؤخذ بالمشط من الرأس .

[ ص: 991 ] قال محمد بن نصر : وحدثنا الحسن بن محمد الزعفراني ، ثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن الزبير بن موسى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : إن الله تعالى ضرب منكب آدم الأيمن ، فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية ، فقال : هؤلاء أهل الجنة ، ثم ضرب منكبه الأيسر ، فخرجت كل نفس مخلوقة للنار سوداء ، فقال : هؤلاء أهل النار ، ثم أخذ عهدهم على الإيمان به ، والمعرفة له ، وبأمره ، والتصديق له وبأمره من بني آدم كلهم ، وأشهدهم على أنفسهم ، فآمنوا ، وصدقوا ، وعرفوا ، وأقروا .

[ ص: 992 ] قال إسحاق : وحدثنا روح بن عبادة ، ثنا محمد بن عبد الملك ، عن أبيه ، عن الزبير بن موسى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بهذا الحديث ، وزاد : قال ابن جريج : وبلغني أنه أخرجهم على كفه أمثال الخردل .

قال إسحاق : وحدثنا حكام بن سلم الرازي ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب في قوله عز وجل : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم ) الآية ، قال : جمعهم يومئذ جمعا ، ما هو كائن إلى يوم القيامة ، فجعلهم أرواحا ، ثم صورهم ، ثم استنطقهم ، وتكلموا ، وأخذ عليهم العهد والميثاق ، وأشهدهم على أنفسهم . قال : فإني أشهد عليكم السماوات والأرضين السبع ، وأشهد عليكم أباكم آدم ، أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم هذا . اعلموا أنه لا إله غيري ، ولا رب غيري ، ولا تشركوا بي شيئا ، فإني سأرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي ، وميثاقي ، وأنزل عليكم كتبي . قالوا : نشهد أنك ربنا وإلهنا ، ولا رب غيرك ، ولا إله لنا غيرك . فأقروا يومئذ بالطاعة ، ورفع لهم أبوهم آدم ، فنظر ، فرأى فيهم الغني والفقير ، وحسن الصورة ودون ذلك ، فقال : يا رب ، لو سويت بين عبادك ! فقال : إني أحببت أن أشكر ، ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج عليهم النور ، وخصوا بميثاق آخر في الرسالة والنبوة ، فهو الذي يقول : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ) . . . [ ص: 993 ] إلى قوله : . . . ( غليظا ) ، وهو الذي يقول : ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) ، فلذلك قال : ( هذا نذير من النذر الأولى ) ، وفي ذلك قال : ( وما وجدنا لأكثرهم من عهد ) ، وفي ذلك قال : ( ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ) ، كان في علمه يوم أقروا بما أقروا به ، ومن يكذب به ومن يصدق .

قال : وكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها العهد والميثاق في زمن آدم ، فأرسل ذلك إلى مريم حتى ( انتبذت من أهلها ) . . . ، إلى قوله : . . . ( حملته ) . . . ، حملت الذي خاطبها ، وهو روح عيسى .

[ ص: 994 ] [ ص: 995 ] [ ص: 996 ] وفي تفسير أسباط بن نصر ، عن السدي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : ( وإذ أخذ ربك ) . . . الآية ، قال : لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء مسح صفحة ظهر آدم اليمنى ، فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ ، وكهيئة الذر ، فقال لهم : ادخلوا الجنة برحمتي ، ومسح صفحة ظهره اليسرى ، فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر ، فقال : ادخلوا النار ، ولا أبالي ، فذلك حين يقول : (وأصحاب اليمين ) ، : ( وأصحاب الشمال ) ، ثم أخذ منهم الميثاق فقال : ( ألست بربكم قالوا بلى ) ، فأعطاه طائفة طائعين ، وطائفة كارهين ، فقالت الملائكة : ( شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) فلذلك ليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف أن ربه الله ، ولا مشرك إلا وهو يقول : ( إنا وجدنا آباءنا على أمة ) ، فلذلك قول الله عز وجل : ( وإذ أخذ ربك ) الآية ، وذلك حين يقول : ( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ) ، وذلك حين يقول : ( قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) قال : يعني يوم أخذ عليهم الميثاق .

[ ص: 997 ] قال إسحاق : وأخبرنا روح بن عبادة ، ثنا موسى بن عبيدة الربذي قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول في هذه الآية : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم ) ، فأقروا له بالإيمان ، والمعرفة : الأرواح قبل أن يخلق أجسادها .

قال إسحاق : وحدثنا الفضل بن موسى ، عن عبد الملك ، عن عطاء قال : [ ص: 998 ] أخرجوا من صلب آدم حين أخذ منهم الميثاق ، ثم ردوا في صلبه .

قال إسحاق : وأخبرنا علي بن الأجلح ، عن الضحاك قال : إن الله أخرج من ظهر آدم يوم خلقه ما يكون إلى أن تقوم الساعة ، فأخرجهم مثل الذر ، فقال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، قالت الملائكة : شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، ثم قبض قبضة بيمينه ، فقال : هؤلاء في الجنة ، وقبض أخرى ، فقال : هؤلاء في النار .

قال محمد بن نصر : وحدثنا بندار ، ثنا أبو أحمد ، ثنا سفيان ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله : ( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ) [ ص: 999 ] قال : أخذه الميثاق .

قال محمد : فقد ذكرنا ما حضرنا من الأخبار المروية عن السلف في تأويل قوله : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم ) الآية ، وليس في شيء منها أن الطفل يسقط من بطن أمه وهو عارف بالله ، ولا في شيء منها دليل على ذلك .

قلت : أبو محمد لم يرد أنهم ولدوا عارفين بالله معرفة حاصلة معهم بالفعل ، وإنما أراد أنهم ولدوا على حكم تلك الفطرة والميثاق الذي أخذ عليهم بحيث لو خلوا وفطرهم لما عدلوا عن موجب ذلك .

[ ص: 1000 ] قال محمد : فيقال له : هل عندك من دليل يدل على أن الفطرة التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أن كل مولود يولد عليها " هي المعرفة بالله ؟ أو هل يحكى عن أحد من السلف أنه قال ذلك ؟ أو هل يدل على ذلك بقياس ؟ فإن أتى بشيء من هذه الدلائل ، وإلا بان باطل دعواه .

فإن هو رجع إلى قوله : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ) الآية ، فقال : استشهاد الله ذرية آدم على أنه ربهم دليل على أن معرفة ذلك متقدمة عندهم كما استشهدهم عليه ، فهذه غاية حجته عند نفسه .

قال : لأن كل مستشهد على شيء لم تتقدم المعرفة عنده بما استشهد عليه قبل الاستشهاد ، فإن المستشهد دعاه إلى أن شهد بقول الزور ، والله لا يأمر أحدا بذلك .

فيقال له : إن إجابتك عن غير ما تسأل عنه ، واحتجاجك له هو الدليل على عجزك ، وعلى أنه لا حجة لك ، إنا لم نسألك عن الوقت الذي استشهدهم الله فيه ، وقال لهم : ألست بربكم ؟ فأجابوه بأن قالوا : بلى - هل كانوا عارفين في ذلك الوقت أم لا - إنما سألناك عن وقت سقوطهم من بطون أمهاتهم : هل عندك حجة تثبت أنهم في ذلك الوقت عارفون ؟

فإن قال : إن ثبوت المعرفة لهم في ذلك الوقت دليل على أنهم ولدوا على ذلك ، فهم في وقت الولادة على ما كانوا عليه قبل ذلك .

[ ص: 1001 ] قيل له : فقد كانوا في ذلك الوقت مقرين أيضا ، وذلك أن الله عز وجل أخبر أنه قال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، والله عز وجل لا يخاطب إلا من يفهم عند المخاطبة ، ولا يجيب إلا من فهم السؤال ، فإجابتهم إياه بقولهم دليل على أنهم قد فهموا عن الله ، وعقلوا عنه استشهاده إياهم : ألست بربكم ، فأجابوه من بعد عقلهم للمخاطبة وفهمهم لها بأن قالوا : بلى ، فأقروا له بالربوبية .

فيقال له : فهكذا تقول : إن الطفل إذا سقط من بطن أمه فهو من ساعته يفهم المخاطبة إن خوطب ، ويجيب عنها ، ويقر له بالربوبية ، كإقرار الذين أقروا له بالربوبية في الوقت الذي أخذ عليهم الميثاق ، فإن قال : " نعم " كابر عقله وأكذبه العيان ، وإن قال : " لا " أقول : ذلك فرق بين الوقتين ، فجعل حالهم في وقت الولادة خلاف حالهم في الوقت الأول عند أخذ الميثاق منهم ، فيقال له : فكذلك جائز أن يكونوا في الوقت الأول عارفين ، وهم في وقت الولادة غير عارفين كما كانوا في الوقت الأول ، فقد فهموا المخاطبة ، وعقلوها ، وأجابوا مقرين لله بالربوبية ، وهم في وقت الولادة على خلاف ذلك .

قلت : كل من قال بأن العهد الذي أخذ عليهم هو أنهم أخرجوا من صلب آدم وخوطبوا ، وأقروا له بالربوبية ، ثم ردوا في صلبه ، فإنه يفرق بين حالهم ذلك الوقت وحالهم وقت الولادة قطعا ، ولا يقول ابن قتيبة ولا غيره : إنهم ولدوا عارفين فاهمين يفهمون السؤال ، ويردون الجواب ، فالأقسام أربعة :

أحدها : استواء حالتهم وقت أخذ العهد ، ووقت سقوطهم - في [ ص: 1002 ] العلم والمعرفة .

الثاني : استواء الوقتين في عدم ذلك .

الثالث : حصول المعرفة عند السقوط ، وعدمها عند أخذ العهد ، وهذه الأقسام الثلاثة باطلة لا يقول بواحد منها .

الرابع : معرفتهم وفهمهم وقت أخذ العهد دون وقت السقوط ، وهذا يقوله كل من يقول : إنه أخرجهم من صلب أبيهم آدم ، وكلمهم ، وخاطبهم ، وأشهد عليهم ملائكته ، وأشهدهم على أنفسهم ، ثم ردهم في صلبه .

وهذا قول جماهير من السلف والخلف ، واعتمدوا على ما ذكرنا من هذه الآثار مرفوعها وموقوفها .

وأحسن شيء فيها حديث مسلم بن يسار ، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وقد ذكرنا كلام الأئمة فيه ، على أن إسحاق قد رواه عن حكام بن سلم ، عن

[ عمارة ] بن عمير ، عن أبي محمد رجل من أهل المدينة قال : سألت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن هذه الآية ، فقال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها ، فقال : " خلق الله آدم بيده ونفخ فيه من روحه ، ثم أجلسه فمسح ظهره ، فأخرج ذرا ، فقال : ذر ذراتهم للجنة يعملون بما شئت من عمل ، ثم أختم لهم بأحسن أعمالهم فأدخلهم الجنة ، ثم مسح ظهره ، فأخرج ذرا ، فقال : ذر ذراتهم للنار يعملون بما شئت من عمل ، ثم أختم لهم بأسوأ أعمالهم ، فأدخلهم النار " ، فهذا لا ذكر فيه لمخاطبتهم ، وسؤالهم [ ص: 1003 ] واستنطاقهم ، وهو موافق لسائر الأحاديث ، ويشبه أن يكون هو المحفوظ عن عمر - رضي الله عنه .

وأما سائر الأحاديث فالمرفوع الصحيح منها إنما فيه إثبات القبضتين ، وتمييز أهل السعادة من أهل الشقاوة قبل إخراجهم إلى دار التكليف : مثل الحديث الذي رواه أحمد ، عن عبد الصمد ، ثنا حماد ، ثنا

[ الجريري ] ، عن أبي نضرة أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له : أبو عبد الله دخل عليه أصحابه يعودونه ، وهو يبكي ، فقالوا له : ما يبكيك ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله قبض قبضة بيمينه ، وأخرى بيده الأخرى ، فقال : هذه لهذه ، وهذه لهذه ، ولا أبالي " فلا أدري في أي القبضتين أنا !

وكذلك حديث المقبري ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه - الذي تقدم هو وغيره من الأحاديث التي فيها : " إن الله أخرج ذرية آدم من ظهره ، وأراه إياهم ، وجعل أهل السعادة في قبضته اليمنى ، وأهل الشقاوة في القبضة الأخرى " .

[ ص: 1004 ] وأما الآثار التي فيها أنه استنطقهم ، وأشهدهم ، وخاطبهم فهي بين موقوفة ، ومرفوعة لا يصح إسنادها كحديث مسلم بن يسار ، وحديث هشام بن حكيم بن حزام : فإن في إسناده بقية بن الوليد ، وراشد بن سعد ، وفيهما مقال ،

[ وقتادة النصري ، ] وهو مجهول .

[ ص: 1005 ] [ ص: 1006 ] وبالجملة ، فالآثار في إخراج الذرية من ظهر آدم ، وحصولهم في القبضتين كثيرة لا سبيل إلى ردها ، وإنكارها ، ويكفي وصولها إلى التابعين ، فكيف بالصحابة ؟ ومثلها لا يقال بالرأي والتخمين ، ولكن الذي دل عليه الصحيح من هذه الآثار إثبات القدر ، وأن الله علم ما سيكون قبل أن يكون ، وعلم الشقي والسعيد من ذرية آدم ، وسواء كان ما استخرجه فرآه آدم هو أمثالهم ، أو أعيانهم ، فأما نطقهم فليس في شيء من الأحاديث التي تقوم بها الحجة ، ولا يدل عليه القرآن : فإن القرآن يقول فيه : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) فذكر الأخذ من ظهور بني آدم لا من نفس ظهر آدم ، " وذريتهم " يتناول كل من ولدوه إن [ ص: 1007 ] [ ص: 1008 ] كان كثيرا ، كما قال في تمام الآية : ( أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم ) ، وقال تعالى : ( إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض ) ، وقال : ( ذرية من حملنا مع نوح ) ، وقال : ( ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون ) ، فاسم " الذرية " يتناول الكبار ، وقوله : ( وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) ، فشهادة المرء على نفسه في القرآن يراد بها إقراره ، فمن أقر بحق عليه فقد شهد به على نفسه .

قال تعالى : ( كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) ، كما احتج الفقهاء بذلك على صحة الإقرار .

وفي حديث ماعز بن مالك : " فلما شهد على نفسه أربع مرات " أي [ ص: 1009 ] أقر أربع مرات ، وقال تعالى : ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ) ، فإنهم كانوا مقرين بما هو كفر ، فكان ذلك شهادتهم على أنفسهم .

ومنه قوله : ( ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) ، فشهادتهم على أنفسهم هي إقرارهم وهي أداء الشهادة على أنفسهم ، ولفظ " شهد فلان " ، و " أشهد به " يراد به تحمل الشهادة ، ويراد به أداؤها .

فالأول كقوله : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) .

والثاني : كقوله : ( كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم ) .

وقوله : ( وأشهدهم على أنفسهم ) ، من هذا الثاني ليس المراد : أنه جعلهم يتحملون الشهادة على أنفسهم ، ويؤدونها في وقت آخر ، فإنه سبحانه في مثل ذلك إنما يشهد على الرجل غيره ، كما في قصة آدم ، لما [ ص: 1010 ] أشهد عليه الملائكة ، وكما في شهادة الملائكة ، وشهادة الجوارح على أصحابها ، ولهذا قال بعض المفسرين : المعنى ( أشهد بعضهم على بعض ) ، لكن هذا اللفظ حيث جاء في القرآن إنما يراد به شهادة الرجل على نفسه ، بمعنى أداء الشهادة على نفسه ، وقولهم " بلى شهدنا " : هو إقرارهم بأنه ربهم ، ومن أخبر بأمر عن نفسه فقد شهد به على نفسه ، فإن قولهم : " بلى شهدنا " معناه : أنت ربنا ، وهذا إقرار منهم بربوبيته لهم ، وجعلهم شهداء على أنفسهم بما أقروا به ، وقوله : " أشهدهم " يقتضي أنه هو الذي جعلهم شاهدين على أنفسهم بأنه ربهم ، وهذا الإشهاد مقرون بأخذهم من ظهور آبائهم ، وهذا الأخذ المعلوم المشهود الذي لا ريب فيه هو أخذ المني من أصلاب الآباء ، ونزوله في أرحام الأمهات ، لكن لم يذكر هنا الأمهات ، كقوله : ( أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم ) ، وهم كانوا متبعين لدين آبائهم لا لدين الأمهات ، كما قالوا : ( إنا وجدنا آباءنا على أمة ) ، ولهذا قال : ( أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم ) ، فهو سبحانه يقول : اذكر حين أخذوا من أصلاب الآباء فخلقوا حين ولدوا على الفطرة مقرين بالخالق ، شاهدين على أنفسهم بأن الله ربهم ، فهذا الإقرار حجة لله عليهم يوم القيامة ، فهو يذكر أخذه لهم ، وإشهاده إياهم على أنفسهم ، فإنه سبحانه خلق فسوى ، وقدر فهدى ، فأخذهم يتضمن خلقهم ، والإشهاد يتضمن هداه لهم إلى هذا [ ص: 1011 ] الإقرار ، فإنه قال : " أشهدهم " أي جعلهم شاهدين ، فهذا الإشهاد من لوازم الإنسان ، وكل إنسان جعله الله مقرا بربوبيته شاهدا على نفسه بأنه مخلوق ، والله خالقه ، وهذا أمر ضروري لبني آدم لا ينفك منه مخلوق ، وهو مما جبلوا عليه ، فهو علم ضروري لهم لا يمكن أحدا جحده ، ثم قال بعد ذلك : ( أن تقولوا ) ، أي كراهية أن تقولوا ، أو لئلا تقولوا : ( إنا كنا عن هذا غافلين ) ، أي عن هذا الإقرار لله بالربوبية ، وعلى نفوسنا بالعبودية ، فإنهم ما كانوا غافلين عن هذا ، بل كان هذا من العلوم الضرورية اللازمة لهم التي لم يخل منها بشر قط ، بخلاف كثير من العلوم التي قد تكون ضرورية ، ولكن قد يغفل عنها كثير من بني آدم من علوم العدد والحساب وغير ذلك ، فإنها إذا تصورت كانت علوما ضرورية ، لكن كثيرا من الناس غافل عنها .

وأما الاعتراف بالخالق فإنه علم ضروري لازم للإنسان لا يغفل عنه أحد بحيث لا يعرفه ، بل لا بد أن يكون قد عرفه ، وإن قدر أنه نسيه . ولهذا يسمى التعريف بذلك تذكيرا ، فإنه تذكير بعلوم فطرية ضرورية ، وقد ينساها العبد كما قال تعالى : ( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ) ، وفي الحديث الصحيح : " يقول الله للكافر : فاليوم أنساك كما نسيتني " .

[ ص: 1012 ] ثم قال : ( أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) ، فذكر سبحانه لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد :

إحداهما : أن يقولوا : ( إنا كنا عن هذا غافلين ) ، فبين أن هذا علم فطري ضروري لا بد لكل بشر من معرفته ، وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل ، وأن القول بإثبات الصانع علم فطري ضروري ، وهو حجة على نفي التعطيل .

والثاني : أن يقولوا : ( إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) ، وهم آباؤنا المشركون : أي أفتعاقبنا بذنوب غيرنا ؟ فإنه لو قدر أنهم لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم ووجدوا آباءهم مشركين ، وهم ذرية من بعدهم ، ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذي الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات ، والمساكن ، والملابس ، والمطاعم إذ كان هو الذي رباه ، ولهذا كان أبواه يهودانه ، وينصرانه ، ويمجسانه ، فإذا كان هذا مقتضى العادة والطبيعة ، ولم يكن في فطرهم وعقولهم ما يناقض ذلك ، قالوا : نحن معذورون ، وآباؤنا هم الذين أشركوا ، ونحن كنا ذرية لهم بعدهم ، ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم : فإذا كان في فطرهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم ، كان معهم ما يبين بطلان هذا الشرك ، وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم .

فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية الفعلية السابقة لهذه العادة الطارئة ، وكانت الفطرة الموجبة [ ص: 1013 ] للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها ، وهذا يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك لا يحتاج ذلك إلى رسول ، فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا . وهذا لا يناقض قوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ، فإن الرسول يدعو إلى التوحيد ، ولكن الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع ، لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم ، فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأن الله ربهم ، ومعرفتهم بذلك أمر لازم لكل بني آدم ، به تقوم حجة الله تعالى في تصديق رسله ، فلا يمكن أحدا أن يقول يوم القيامة إني كنت عن هذا غافلا ، ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له ، فلم يكن معذورا في التعطيل ، والإشراك بل قام به ما يستحق به العذاب .

ثم إن الله سبحانه - لكمال رحمته وإحسانه - لا يعذب أحدا إلا بعد إرسال الرسول إليه ، وإن كان فاعلا لما يستحق به الذم والعقاب : فلله على عبده حجتان قد أعدهما عليه لا يعذبه إلا بعد قيامهما :

إحداهما : ما فطره عليه ، وخلقه عليه من الإقرار بأنه ربه ، ومليكه وفاطره ، وحقه عليه لازم .

والثانية : إرسال رسله إليه بتفصيل ذلك ، وتقريره وتكميله ، فيقوم عليه شاهد الفطرة ، والشرعة ، ويقر على نفسه بأنه كان كافرا كما قال تعالى : [ ص: 1014 ] ( وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) ، فلم ينفذ عليهم الحكم إلا بعد إقرار وشاهدين وهذا غاية العدل .

التالي السابق


الخدمات العلمية