صفحة جزء
186 - فصل

[ تفسير الإمام أحمد للفطرة ، وما يترتب عليه ] .

وكلام أحمد في أجوبة متعددة يدل على أن الفطرة عنده الإسلام [ ص: 1026 ] كما ذكر محمد بن نصر عنه أنه آخر قوليه ، فإنه كان يقول : إن صبيان أهل الحرب إذا سبوا بدون الأبوين كانوا مسلمين ، وإذا كانوا مع الأبوين فهم على دينهما ، وإن سبوا مع أحدهما ففيه روايتان . وكان يحتج بالحديث ، ثم ذكر نص أحمد في رواية المروذي في سبي أهل الحرب أنهم مسلمون إذا كانوا صغارا ، وإن كانوا مع أحد الأبوين ، واحتج بقوله : " كل مولود يولد على الفطرة " الحديث .

وذكر نصه في رواية إسحاق بن منصور : " إذا لم يكن معه أبواه فهو مسلم " .

وكذلك نقل يعقوب بن بختان : قال أبو عبد الله : إذا مات أبواه ، وهو صغير أجبر على الإسلام ، وذكر الحديث : " فأبواه يهودانه ، وينصرانه " .

وقال في رواية عبد الكريم بن الهيثم العاقولي في المجوسيين يولد لهما ولد فيقولان : هذا مسلم ، فيمكث خمس سنين ، ثم يتوفى ، قال : يدفنه [ ص: 1027 ] المسلمون ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فأبواه يهودانه ، وينصرانه ، ويمجسانه " .

وقال في رواية المروذي في الأبوين الكافرين يموتان ، ويدعان طفلا ، يكون مسلما لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فأبواه يهودانه ، وينصرانه " ، وهذا ليس له أبوان ، قلت : يجبر على الإسلام ؟ قال : نعم ، هؤلاء مسلمون لقول النبي - صلى الله عليه وسلم .

وهذا كثير في أجوبته ، يحتج بالحديث على أن الطفل إنما يصير كافرا بأبويه ، فإذا لم يكن مع أبوين كافرين ، فهو مسلم ، فلو لم تكن الفطرة الإسلام لم يكن بعدم أبويه يصير مسلما ، فإن الحديث إنما دل على أنه يولد على الفطرة ، ونقل عنه الميموني : أن الفطرة هي الدين ، وهي الفطرة الأولى .

فهذا آخر قولي أبي عبد الله في الفطرة ، وقد كان يقول أولا : إنها ما فطروا عليه من الشقاوة ، والسعادة .

قال محمد بن يحيى الكحال : قلت لأبي عبد الله : " كل مولود يولد على الفطرة " ما تفسيرها ؟ قال : هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها شقي [ ص: 1028 ] أو سعيد .

وكذلك نقل الفضل بن زياد ، وحنبل ، وأبو الحارث : أنهم سمعوا أبا عبد الله في هذه المسألة قال : الفطرة التي فطر الله العباد عليها من الشقوة والسعادة .

وكذلك نقل عنه علي بن سعيد أنه سأله عن قوله : " كل مولود يولد على الفطرة " قال : على الشقاء والسعادة ، وإليه يرجع كل ما خلق .

وكذلك قال في رواية الحسن بن ثواب : كل مولود من أطفال المشركين على الفطرة ، يولد على الفطرة التي خلقوا عليها من الشقاوة والسعادة التي سبقت في أم الكتاب لدفع ذلك إلى الأصل .

قلت : أصحاب هذا القول يحتجون بقوله تعالى : ( هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ) ، وبقوله : ( كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ) ، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - في خلق الجنين : " ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بكتب رزقه وأجله ، وعمله ، وشقي أو سعيد " وبقوله : " إن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم [ ص: 1029 ] طبع كافرا " وبالآثار المعروفة : " الشقي من شقي في بطن أمه " ، وغير ذلك من الآثار الدالة على القدر السابق ، وأن الشقاوة ، والسعادة بقضاء سابق وقدر متقدم على وجود العبد ، وهو حق لا ريب فيه ، ولا نزاع فيه بين الصحابة ، والتابعين ، وجميع أهل السنة ، ولكن لا ينافي كون الطفل قد خلق على الفطرة التي هي دين الله ، فإن القدر السابق ، والعلم القديم اقتضى أن تهيأ له أسباب تخرج عن هذه الفطرة ، وقوله : ( لا تبديل لخلق الله ) ، أي لا يقدر أحد أن يغير الخلقة التي خلق عليها عباده وفطرهم عليها من أنهم لو خلوا ونفوسهم لكانوا على الحنيفية ، فخلقهم على هذا الوجه لا تغيير له ، وإنما التغيير بأسباب طارئة جارية على الخلقة .

وأما قوله تعالى : ( هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ) ، فغايته أن يدل على أنه خلق الكافر كافرا ، والمؤمن مؤمنا ، وهذا متفق عليه بين الصحابة ، وجميع أهل السنة ، وليس فيه ما ينفي كونهم مخلوقين على فطرة الإسلام ، خلق لهم أسبابا أخرجت من أخرجته منهم عنها .

وأما قوله تعالى : ( كما بدأكم تعودون ) ، فقال سعيد بن جبير [ ص: 1030 ] كما كتب عليكم تكونون .

وقال مجاهد : كما بدأكم تعودون شقيا ، وسعيدا .

[ ص: 1031 ] وقال أيضا : يبعث المسلم مسلما والكافر كافرا .

وقال أبو العالية : عادوا إلى علمه فيهم : ( فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ) .

وهذا يتضمن إثبات علمه ، وقدره السابق ، وأن الخلق يصيرون إليه لا محالة ، وكون هذا مراد الآية غير متعين ، فإن الآية اقتضت حكمين :

أحدهما : أنه يعيدهم كما بدأهم على عادة القرآن في الاستدلال على المعاد بالبداءة .

والثاني : أنه سبحانه هدى فريقا وأضل فريقا ، فالأمر كله له : بدؤهم وإعادتهم ، وهداية من هدى منهم وإضلال من أضل منهم ، وليس في شركائهم من يفعل شيئا من ذلك .

وأما أمر الملك " بكتب شقاوة العبد وسعادته في بطن أمه " وقوله [ ص: 1032 ] " الشقي من شقي في بطن أمه " فحق لا يخالف فيه أحد من أهل السنة بل قد اتفقت كلمتهم ، وكلمة الصحابة قبلهم على ذلك .

وأما حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في الغلام الذي قتله الخضر : " أنه طبع يوم طبع كافرا " فمثل ذلك سواء .

و " كافرا " حال مقدرة لا مقارنة ، أي طبع مقدرا كفره ، وإلا فهو في حال كونه جنينا وطفلا لا يعقل كفرا ولا إيمانا .

فإن قيل : فإذا كان هكذا فلم قتله الخضر ؟ فالجواب ما قاله لموسى : ( وما فعلته عن أمري ) ، فالله تعالى أمره بقتل ذلك الغلام لمصلحة ، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكف عن قتل النساء ، والذرية لمصلحة ، فكان في كل ما أمر به مصلحة ، وحكمة ورحمة يشهدها أولو الألباب .

التالي السابق


الخدمات العلمية