صفحة جزء
205 - فصل : المذهب العاشر : أنهم يمتحنون في الآخرة .

ويرسل إليهم الله تبارك وتعالى رسولا ، وإلى كل من لم تبلغه الدعوة : فمن أطاع الرسول دخل الجنة ، ومن عصاه دخل النار .

وعلى هذا ، فيكون بعضهم في الجنة وبعضهم في النار .

وهذا قول جميع أهل السنة ، والحديث : حكاه الأشعري عنهم في [ ص: 1138 ] كتاب " الإبانة " الذي اتفق أصحابه على أنه تأليفه ، وذكره ابن فورك ، وذكره أبو القاسم بن عساكر في تصانيفه ، وذكر لفظه في حكايته قول أهل السنة والحديث ، وطعن بذلك على من بدع الأشعري وضلله .

[ ص: 1139 ] قال فيه : " وجملة قولنا أن نقر بالله تبارك وتعالى ، وملائكته ، وكتبه ورسله ، وما جاء من عنده ، وما روى لنا الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرد من ذلك شيئا " إلى أن قال : " وقولنا في الأطفال - أطفال المشركين - أن الله عز وجل يؤجج لهم نارا في الآخرة ، ثم يقول : " اقتحموها " كما جاءت الرواية بذلك " هذا قوله في " الإبانة " وهو من آخر كتبه .

وقال في كتاب " المقالات " : " وإن الأطفال أمرهم إلى الله ، إن شاء عذبهم ، وإن شاء غفر لهم كما يريد " .

وهذا المذهب حكاه محمد بن نصر المروزي في كتابه في " الرد على ابن قتيبة " ، واحتج له فقال : ( ذكر الأخبار التي احتج بها من أوجب امتحانهم ، واختبارهم في الآخرة ) فقال :

حدثنا إسحاق ، أخبرنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن الأحنف بن قيس ، عن الأسود بن سريع أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أربعة يمتحنون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع ، ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في الفترة .

[ ص: 1140 ] أما الأصم فيقول : يا رب ، قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا ، وأما الأحمق فيقول : يا رب ، قد جاء الإسلام والصبيان يرمونني بالبعر ، وأما الهرم فيقول : يا رب قد جاء الإسلام وما أعقل شيئا ، وأما الذي مات في الفترة ، فيقول : ما أتاني لك رسول ، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه ، فيرسل إليهم رسولا : أن ادخلوا النار ، فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما " .

حدثنا إسحاق ، أخبرنا معاذ بن هشام ، أخبرني أبي ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بمثل هذا الحديث ، غير أنه قال في آخره : " فمن دخلها كانت عليه بردا ، وسلاما ، ومن لم يدخلها [ ص: 1141 ] سحب إليها " .

حدثنا أبو بكر بن زنجويه ، ثنا عبد الرحمن ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " ثلاثة يمتحنون يوم القيامة : المعتوه ، والذي هلك في الفترة ، والأصم . . " فذكر الحديث .

[ ص: 1142 ] حدثنا محمد بن يحيى ، ثنا أبو نصر التمار ، ثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن يزيد ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أربعة كلهم يوم القيامة يدلي على الله بحجة وعذر : رجل هلك في الفترة ، ورجل أدرك الإسلام هرما ، ورجل أصم أبكم ، ورجل معتوه ، فيبعث الله إليهم رسولا ، فيقول : أطيعوه ، فيأتيهم الرسول ، فيؤجج لهم نارا ، فيقول : اقتحموها فمن اقتحمها كانت عليه بردا ، وسلاما ، ومن لا حقت عليه كلمة العذاب " .

حدثنا محمد بن يحيى ، ثنا سعيد بن سليمان ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الهالك في الفترة ، والمعتوه ، والمولود ، قال : يقول الهالك في الفترة : لم يأتني كتاب ، ولا رسول ، ثم تلا : [ ص: 1143 ] ( ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ) ، ويقول المعتوه : رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا ، قال : ويقول المولود : رب لم أدرك العقل ، قال : فترفع لهم نار ، فيقال لهم : ردوها ، أو ادخلوها . قال : فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيدا ، لو أدرك العمل ، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل ، فيقول : إياي عصيتم فكيف رسلي ؟ !

قال محمد بن نصر : ورواه أبو نعيم الملائي ، عن فضيل ، عن عطية ، [ ص: 1144 ] عن أبي سعيد " موقوفا " .

حدثنا أبو بكر بن زنجويه ، ثنا محمد بن المبارك

[ الصوري ] ، ثنا عمرو بن واقد ، عن يونس بن حلبس ، عن أبي إدريس ، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يؤتى بالممسوخ - أو الممسوخ عقلا - والهالك في الفترة ، والهالك صغيرا ، فيقول الممسوخ عقلا : يا رب ، لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد مني بعقله ، ويقول الهالك في الفترة

[ يا رب : لو آتاني منك عهد ، ما كان من آتيته عهدا بأسعد بعهدك مني ، ويقول الهالك صغيرا : ] يا رب لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد بعمره مني ، فيقول الرب سبحانه : لئن آمركم بأمر أفتطيعونني ؟ فيقولون : نعم ، وعزتك يا رب . فيقول : اذهبوا فادخلوا النار . قال : لو دخلوها ما ضرتهم . قال : فيخرج عليهم قوابض يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء ، فيرجعون سراعا فيقولون : خرجنا - وعزتك - نريد دخولها ، فخرجت علينا قوابض ظننا أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء . ثم يأمرهم الثانية فيرجعون كذلك ، ويقولون مثل قولهم ، فيقول الرب سبحانه : قبل أن أخلقكم علمت ما أنتم عاملون ، وعلى علمي خلقتكم ، [ ص: 1145 ] وإلى علمي تصيرون جميعكم ، فتأخذهم النار
" .

حدثنا أحمد بن عمرو ، أخبرنا جرير ، عن ليث ، عن عبد الوارث ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يؤتى بالمولود والمعتوه ، ومن مات في الفترة ، وبالمعمر الفاني ، قال : كلهم يتكلم بحجته ، فيقول الرب تعالى لعنق من النار : ابرز ، فيقول لهم : إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم ، وإني رسول نفسي إليكم ، فيقول لهم : [ ص: 1146 ] ادخلوا هذه ، فيقول من كتب عليهم الشقاء : يا رب ، أنى ندخلها ومنها كنا نفر ! قال : ومن كتب عليه

[ السعادة ] يمضي فيقتحمهم فيها مسرعا . فيقول الرب تعالى : قد عاندتموني ، وقد عصيتموني ، فأنتم لرسلي أشد تكذيبا ، ومعصية ، فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار
.

حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا محمد بن الصباح ، ثنا ريحان بن سعيد

[ الناجي
، ] عن عباد بن منصور ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء الرحبي ، عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية [ ص: 1147 ] يحملون أوثانهم على ظهورهم ، فيسألهم ربهم : ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون : ربنا لم ترسل إلينا رسولا ، ولم يأتنا لك أمر . ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك لك ! فيقول لهم ربهم : أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعونني ؟ فيقولون : نعم ، فيؤمرون أن يعمدوا إلى جهنم فيدخلوها ، فينطلقون حتى إذا رأوها ، فإذا لها تغيظ وزفير ، فيهابونها ، فيرجعون إلى ربهم ، فيقولون : يا ربنا ، فرقنا منها ، فيقول ربهم تبارك وتعالى : تزعمون أنكم إن أمرتكم بأمر أطعتموني ، فيأخذ مواثيقهم ، فيقول : اعمدوا إليها فادخلوها ، فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا ورجعوا إلى ربهم ، فقالوا : ربنا فرقنا منها ، فيقول : ألم تعطوني مواثيقكم لتطيعوني ؟ اعمدوا إليها فادخلوها . فينطلقون حتى إذا رأوها فزعوا ورجعوا ، فقالوا : فرقنا يا رب ، ولا نستطيع أن ندخلها ، فيقول ادخلوها داخرين . قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا وسلاما " .

[ ص: 1148 ] فإن قيل : هذه الأحاديث - مع ضعفها - مخالفة لكتاب الله ، ولقواعد الشريعة ، فإن الآخرة ليست دار تكليف ، وإنما هي دار جزاء ، ودار التكليف هي دار الدنيا ، فلو كانت الآخرة دار تكليف لكان ثم دار جزاء غيرها .

قال أبو عمر في " الاستذكار " ، وقد ذكر بعض هذه الأحاديث : وهذه الأحاديث كلها ليست بالقوية ، ولا تقوم بها حجة ، وأهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب ؛ لأن الآخرة دار جزاء ، وليست دار عمل ، ولا ابتلاء ، وكيف يكلفون دخول النار ، وليس ذلك في وسع المخلوقين ، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها ؟ ولا يخلو من مات في الفترة من أن يكون مات كافرا ، أو غير كافر ، فإن مات كافرا جاحدا فإن الله حرم الجنة على [ ص: 1149 ] الكافرين فكيف يمتحنون ؟ وإن كان معذورا بأنه لم يأته نذير ولا رسول ، فكيف يؤمر أن يقتحم النار وهي أشد العذاب ؟ والطفل ومن لا يعقل أحرى بألا يمتحن بذلك .

فالجواب من وجوه :

أحدها : أن أحاديث هذا الباب قد تضافرت ، وكثرت بحيث يشد بعضها بعضا ، وقد صحح الحفاظ بعضها كما صحح البيهقي وعبد الحق وغيرهما حديث الأسود بن سريع .

وحديث أبي هريرة إسناده صحيح متصل ، ورواية معمر له ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة موقوفا لا تضره ، فإنا إن سلكنا طريق الفقهاء ، والأصوليين في الأخذ بالزيادة من الثقة فظاهر ، وإن سلكنا طريق الترجيح - وهي طريقة المحدثين - فليس من رفعه بدون من وقفه في الحفظ ، والإتقان .

الوجه الثاني : أن غاية ما يقدر فيه أنه موقوف على الصحابي ، ومثل هذا لا يقدم عليه الصحابي بالرأي والاجتهاد ، بل يجزم بأن ذلك توقيف لا عن رأي .

الوجه الثالث : أن هذه الأحاديث يشد بعضها بعضا ، فإنها قد تعددت طرقها ، واختلفت مخارجها ، فيبعد كل البعد أن تكون باطلة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتكلم بها ، وقد رواها أئمة الإسلام ودونوها ، ولم يطعنوا فيها .

الوجه الرابع : أنها هي الموافقة للقرآن ، وقواعد الشرع ، فهي تفصيل لما أخبر به القرآن أنه لا يعذب أحد إلا بعد قيام الحجة عليه ، وهؤلاء لم تقم [ ص: 1150 ] عليهم حجة الله في الدنيا ، فلا بد أن يقيم حجته عليهم ، وأحق المواطن أن تقام فيه الحجة يوم يقوم الأشهاد ، وتسمع الدعاوى ، وتقام البينات ، ويختصم الناس بين يدي الرب ، وينطق كل أحد بحجته ومعذرته ، فلا تنفع الظالمين معذرتهم وتنفع غيرهم .

الوجه الخامس : أن القول بموجبها هو قول أهل السنة ، والحديث كما حكاه الأشعري عنهم في " المقالات " وحكى اتفاقهم عليه ، وإن كان قد اختار هو فيها أنهم مردودون إلى المشيئة ، وهذا لا ينافي القول بامتحانهم ، فإن ذلك هو موجب المشيئة .

الوجه السادس : أنه قد صح - بذلك - القول بها عن جماعة من الصحابة ، ولم يصح عنهم إلا هذا القول .

والقول بأنهم خدم أهل الجنة صح عن سلمان ، وفيه حديث مرفوع قد تقدم ، وأحاديث الامتحان أكثر وأصح وأشهر .

الوجه السابع : قوله : " وأهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب " جوابه أنه - وإن أنكرها بعضهم - فقد قبلها الأكثرون ، والذين قبلوها أكثر من الذين أنكروها ، وأعلم بالسنة والحديث ، وقد حكى فيه الأشعري اتفاق أهل السنة والحديث ، وقد بينا أنه مقتضى قواعد الشرع .

الوجه الثامن : أنه قد نص جماعة من الأئمة على وقوع الامتحان في [ ص: 1151 ] الدار الآخرة ، وقالوا : لا ينقطع التكليف إلا بدخول دار القرار ، ذكره البيهقي عن غير واحد من السلف .

الوجه التاسع : ما ثبت في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة ، وأبي سعيد - رضي الله عنهما - في الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولا إليها : أن الله تعالى يأخذ عهوده ، ومواثيقه ألا يسأله غير الذي يعطيه ، وأنه يخالفه ، ويسأله غيره ، فيقول الله له : ما أعذرك ! وهذا العذر منه لمخالفته العهد الذي عاهده ربه عليه ، وهذه معصية منه .

الوجه العاشر : قد ثبت أنه سبحانه يأمرهم في القيامة بالسجود ، ويحول بين المخالفين وبينه ، وهذا تكليف بما ليس في الوسع قطعا ، فكيف ينكر التكليف بدخول النار اختيارا ؟

الوجه الحادي عشر : أنه قد ثبت امتحانهم في القبور ، وسؤالهم وتكليفهم الجواب ، وهذا تكليف بعد الموت برد الجواب .

[ ص: 1152 ] الوجه الثاني عشر : أن أمرهم بدخول النار ليس عقوبة لهم ، وكيف يعاقبهم على غير ذنب ؟ وإنما هو امتحان ، واختبار لهم : هل يطيعونه أو يعصونه ؟ فلو أطاعوه ، ودخلوها لم تضرهم ، وكانت عليهم بردا وسلاما ، فلما عصوه ، وامتنعوا من دخولها استوجبوا عقوبة مخالفة أمره ، والملوك قد تمتحن من يظهر طاعتهم هل هو منطو عليها بباطنه ، فيأمرونه بأمر شاق عليه في الظاهر هل يوطن نفسه عليه أم لا ، فإن أقدم عليه ، ووطن نفسه على فعله أعفوه منه ، وإن امتنع ، وعصى ألزموه به أو عاقبوه بما هو أشد منه .

وقد أمر الله سبحانه الخليل بذبح ولده ، ولم يكن مراده سوى توطين نفسه على الامتثال ، والتسليم ، وتقديم محبة الله على محبة الولد ، فلما فعل ذلك رفع عنه الأمر بالذبح .

[ ص: 1153 ] وقد ثبت أن الدجال يأتي معه بمثال الجنة والنار ، وهي نار في رأي العين ، ولكنها لا تحرق ، فمن دخلها لم تضره ، فلو أن هؤلاء يوطنون أنفسهم على دخول النار التي أمروا بدخولها طاعة لله ، ومحبة له ، وإيثارا لمرضاته ، وتقربا إليه بتحمل ما يؤلمهم لكان هذا الإقدام والقصد منهم لمرضاته ومحبته يقلب تلك النار بردا وسلاما ، كما قلب قصد الخليل - التقرب إلى ربه ، وإيثار محبته ، ومرضاته ، وبذل نفسه ، وإيثاره إياه على نفسه - تلك النار بأمر الله بردا وسلاما ، فليس أمره سبحانه إياهم بدخول النار عقوبة ، ولا تكليفا بالممتنع ، وإنما هو امتحان ، واختبار لهم هل يوطنون أنفسهم على طاعته أم ينطوون على معصيته ، ومخالفته . وقد علم سبحانه ما يقع منهم ولكنه لا يجازيهم على مجرد علمه فيهم ما لم يحصل معلومه الذي يترتب عليهم به الحجة ، فلا أحسن من هذا يفعله بهم وهو محض العدل ، والحكمة .

الوجه الثالث عشر : أن هذا مطابق لتكليفه عباده في الدنيا ، فإنه سبحانه لم يستفد بتكليفهم منفعة تعود إليه ، ولا هو محتاج إليه ، وإنما امتحنهم وابتلاهم ليتبين من يؤثر رضاه ومحبته ، ويشكره ممن يكفر به ويؤثر سخطه : قد علم منهم من يفعل هذا وهذا ، ولكنه بالابتلاء ظهر معلومه الذي يترتب عليه الثواب والعقاب ، وتقوم عليهم به الحجة .

[ ص: 1154 ] وكثير من الأوامر التي أمرهم بها في الدنيا نظير الأمر بدخول النار ، فإن الأمر بإلقاء نفوسهم بين سيوف أعدائهم ، ورماحهم ، وتعريضهم لأسرهم لهم ، وتعذيبهم ، واسترقاقهم ، لعله أعظم من الأمر بدخول النار ، وقد كلف الله بني إسرائيل قتل أنفسهم ، وأولادهم ، وأرواحهم ، وإخوانهم لما عبدوا العجل لما لهم في ذلك من المصلحة ، وهذا قريب من التكليف بدخول النار ، وكلف على لسان رسوله المؤمنين إذا رأوا نار الدجال أن يقعوا فيها - لما لهم في ذلك من المصلحة - وليست في الحقيقة نارا ، وإن كانت في رأي العين نارا ، وكذلك النار التي أمروا بدخولها في الآخرة إنما هي برد وسلام على من دخلها ، فلو لم يأت بذلك أثر لكان هذا هو مقتضى حكمته وعدله ، وموجب أسمائه ، وصفاته .

الوجه الرابع عشر : أن القائل قائلان : قائل بأنه سبحانه يفعل بمحض المشيئة ، والإرادة من غير تعليل ، ولا غاية مطلوبة بالفعل ، وقائل بمراعاة الحكم ، والغايات المحمودة ، والمصالح .

[ ص: 1155 ] وعلى المذهبين فلا يمتنع الامتحان في عرصات القيامة ، بل على القول الأول هو ممكن جائز لا يتوقف العلم به على أمر غير إخبار الصادق .

وعلى المذهب الثاني هو الذي لا يليق بالرب سواه ، ولا تقتضي أسماؤه وصفاته غيره ، فهو متعين .

الوجه الخامس عشر : قوله : " وليس ذلك في وسع المخلوقين " جوابه من وجهين :

أحدهما : أنه في وسعهم ، وإن كان يشق عليهم ، وهؤلاء عباد النار يتهافتون فيها ، ويلقون أنفسهم فيها طاعة للشيطان ، ولم يقولوا : " ليس في وسعنا " مع تألمهم بها غاية الألم ، فعباد الرحمن إذا أمرهم أرحم الراحمين بطاعته باقتحامهم النار كيف لا يكون في وسعهم وهو إنما يأمرهم بذلك لمصلحتهم ومنفعتهم ؟

الثاني : أنهم لو وطنوا أنفسهم على اتباع طاعته ومرضاته لكانت عين نعيمهم ولم تضرهم شيئا .

الوجه السادس عشر : أن أمرهم باقتحام النار المفضية بهم إلى النجاة منها بمنزلة الكي الذي يحسم الداء ، وبمنزلة تناول الداء الكريه الذي يعقب العافية ، وليس من باب العقوبة في شيء ، فإن الله سبحانه اقتضت حكمته وحمده وغناه ورحمته ألا يعذب من لا ذنب له ، بل يتعالى ويتقدس عن ذلك كما يتعالى عما يناقض صفات كماله ، فالأمر باقتحام النار للخلاص [ ص: 1156 ] منها هو عين الحكمة ، والرحمة ، والمصلحة ، حتى لو أنهم بادروا إليها طوعا ، واختيارا ورضا حيث علموا أن مرضاته في ذلك قبل أن يأمرهم به لكان ذلك عين صلاحهم ، وسبب نجاتهم ، فلم يفعلوا ذلك ، ولم يمتثلوا أمره ، وقد تيقنوا ، وعلموا أن فيه رضاه ، وصلاحهم ، بل هان عليهم أمره ، وعزت عليهم أنفسهم أن يبذلوا له منها هذا القدر الذي أمرهم به رحمة ، وإحسانا لا عقوبة .

الوجه السابع عشر : أن أمرهم باقتحام النار كأمر المؤمنين بركوب الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف ، ولا ريب أن ركوبه من أشق الأمور ، وأصعبها حتى أن الرسل لتشفق منه ، وكل منهم يسأل الله السلامة ! فركوب هذا الجسر الذي هو في غاية المشقة كاقتحام النار ، وكلاهما طريق إلى النجاة .

الوجه الثامن عشر : قوله : " ولا يخلو من مات في الفترة من أن يكون كافرا ، أو غير كافر ، فإن كان كافرا فإن الله حرم الجنة على الكافرين ، وإن كان معذورا بأنه لم يأته رسول فكيف يؤمر باقتحام النار ؟ " جوابه من وجوه :

أحدها : أن يقال هؤلاء لا يحكم لهم بكفر ولا إيمان ، فإن الكفر هو جحود ما جاء به الرسول ، فشرط تحققه بلوغ الرسالة ، والإيمان هو تصديق [ ص: 1157 ] الرسول فيما أخبر ، وطاعته فيما أمر ، وهذا أيضا مشروط ببلوغ الرسالة ، ولا يلزم من انتفاء أحدهما وجود الآخر إلا بعد قيام سببه ، فلما لم يكن هؤلاء في الدنيا كفارا ، ولا مؤمنين كان لهم في الآخرة حكم آخر غير حكم الفريقين .

فإن قيل : فأنتم تحكمون لهم بأحكام الكفار في الدنيا من التوارث ، والولاية ، والمناكحة ، قيل : إنما نحكم لهم بذلك في أحكام الدنيا لا في الثواب ، والعقاب ، كما تقدم بيانه .

الوجه الثاني : سلمنا أنهم كفار ، لكن انتفاء العذاب عنهم لانتفاء شرطه وهو قيام الحجة عليهم ، فإن الله تعالى لا يعذب إلا من قامت عليه حجته .

الوجه الثالث : قوله : " وإن كان معذورا كيف يؤمر أن يقتحم النار وهي أشد العذاب ؟ " فالذي قال هذا يوهم أن هذا الأمر عقوبة لهم ، وهذا غلط ، وإنما هو تكليف واختبار ، فإن بادروا إلى الامتثال لم تضرهم النار شيئا .

الوجه التاسع عشر : قوله : " كيف يمتحن الطفل ومن لا يعقل ؟ " كلام فاسد ، فإن الله سبحانه يوم القيامة ينشئهم عقلاء بالغين ، ويمتحنهم في [ ص: 1158 ] هذه الحال ، ولا يقع الامتحان بهم ، وهم على الحالة التي كانوا عليها في الدنيا : فالسنة ، وأقوال الصحابة ، وموجب قواعد الشرع وأصوله لا ترد بمثل ذلك ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية