صفحة جزء
268 - فصل

[ انتقاض العهد بنكثهم أيمانهم ] .

الدليل الرابع : قوله تعالى : ( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر ) فأمر سبحانه بقتال من نكث [ ص: 1381 ] يمينه ؛ أي : عهده الذي عاهدنا عليه من الكف عن أذانا والطعن في ديننا ، وجعل علة قتاله ذلك ، وعطف الطعن في الدين على نكث العهد وخصه بالذكر بيانا أنه من أقوى الأسباب الموجبة للقتال ، ولهذا تغلظ على صاحبه العقوبة ، وهذه كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يهدر دماء من آذى الله ورسوله وطعن في الدين ويمسك عن غيره .

فإن قيل : فالآية تدل على أن من نقض عهده وطعن في الدين فإنه يقاتل ، فمن أين لكم أن من طعن في الدين ولم ينقض العهد لم يقاتل ؟ ومعلوم أن الحكم المعلق بوصفين لا يثبت إلا بوجود أحدهما ، فالجواب من وجوه :

أحدها : أن هذا من باب تعليق الحكم بالوصفين المتلازمين الذي لا ينفك أحدهما عن الآخر ، فمتى تحقق أحدهما تحقق الآخر وهذا كقوله تعالى : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ) ، وكقوله : ( ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق ) ، وقوله : ( ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها ) ونظائره كثيرة جدا ، فلا يتصور بقاؤه على العهد مع الطعن في ديننا بل إمكان بقائه على العهد دينا أقرب [ ص: 1382 ] من بقائه على العهد مع المجاهرة بالطعن في الدين ، بل إن أمكن بقاؤه على العهد مع المجاهرة بالطعن في الدين وسنة الله ورسوله أمكن بقاؤه عليه مع المحاربة باليد ومنع إعطاء الجزية ، وهذا واضح لا خفاء به .

الجواب الثاني : أنه لا بد أن يكون لكل صفة من هاتين الصفتين ما يبين في الحكم ، وإلا فالوصف العديم التأثير لا يتعلق به الحكم فلا يصح أن يقال : من أكل وزنى حد ، ثم قد تكون كل صفة مستقلة بالتأثير لو انفردت ، كما يقال : يقتل هذا لأنه زان مرتد . وقد يكون مجموع الجزاء مرتبا على المجموع ، ولكل وصف تأثير في البعض كما قال تعالى : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ) .

وقد تكون تلك الصفات متلازمة ، كل منها لو فرض تجرده لكان مؤثرا على سبيل الاستقلال ، فيذكر إيضاحا وبيانا للموجب .

وقد تكون تلك الصفات متلازمة ، كل منها لو فرض تجرده لكان مؤثرا على سبيل الاستقلال ، فيذكر إيضاحا وبيانا للموجب .

وقد يكون بعضها مستلزما للبعض من غير عكس كما قال تعالى : ( إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ) وهذه الآية من أي الأقسام فرضت كانت دليلا ؛ لأن أقصى ما يقال : إن نقض العهد هو المبيح للقتال والطعن في الدين مؤكد له موجب له ، فنقول إذا كان الطعن يغلظ قتال من ليس بيننا وبينه عهد ويوجبه ؛ فلأن يوجب قتل من بيننا وبينه ذمة - وهو ملتزم للصغار - أولى ، فإن المعاهد له أن يظهر [ ص: 1383 ] في داره ما شاء من أمر دينه ، والذمي ليس له أن يظهر في دار الإسلام شيئا من دينه الباطل .

الجواب الثالث : أن مجرد نكث الأيمان مقتض للمقاتلة ولو تجرد عن الطعن في الدين ، وضرره أشد من ضرر الطعن في الدين علينا ، فإذا كان أيسر الأمرين مقتضيا للمقاتلة فكيف بأشدهما ؟

الجواب الرابع : أن الذمي إذا سب الله والرسول أو عاب الإسلام علانية فقد نكث يمينه وطعن في ديننا ، ولا خلاف بين المسلمين أنه يعاقب على ذلك بما يردعه وينكل به ، فعلم أنه لم يعاهدنا عليه ؛ إذ لو كان معاهدا عليه لم تجز عقوبته عليه كما لا يعاقب على شرب الخمر وأكل الخنزير ونحو ذلك ، وإذا كنا عاهدناه على ألا يطعن في ديننا ثم طعن فقد نكث يمينه من بعد عهده ، فيجب قتله بنص الآية .

قال شيخنا : وهذه دلالة ظاهرة جدا ؛ لأن المنازع سلم لنا أنه ممنوع من ذلك بالعهد الذي بيننا وبينه لكنه يقول : " ليس كل ما منع منه ينقض عهده كإظهار الخمر والخنزير " . ولكن الفرق بين من وجد منه فعل ما منع منه العهد مما لا يضر بنا ضررا بينا ، كترك الغيار مثلا وشرب الخمر وإظهار الخنزير ، وبين من وجد منه فعل ما منع منه العهد مما فيه غاية الضرر بالمسلمين وبالدين ، فإلحاق أحدهما بالآخر باطل .

يوضح ذلك الجواب الخامس : أن النكث هو مخالفة العهد ، فمتى [ ص: 1384 ] خالفوا شيئا مما صولحوا عليه فهو نكث مأخوذ من نكث الحبل وهو نقض قواه ، ونكث الحبل يحصل بنقض قوة واحدة كما يحصل بنقض جميع القوى ، لكن قد يبقى من [ قواه ما [ يتمسك به الحبل ، وقد يهن بالكلية .

وهذه المخالفة من المعاهد قد تبطل العهد بالكلية حتى تجعله حربيا ، وقد تشعث العهد حتى تبيح عقوبتهم ، كما أن فقد بعض الشروط في البيع والنكاح وغيرهما قد يبطله بالكلية ، وقد يبيح الفسخ والإمساك .

وأما من قال : " ينتقض العهد بجميع المخالفات " . فظاهر على قول قاله القاضي في " التعليق " .

واحتج القاضي بأنهم لو أظهروا منكرا في دار الإسلام مثل : إحداث البيع والكنائس في دار الإسلام ورفع الأصوات بكتبهم والضرب بالنواقيس وإطالة البناء على أبنية المسلمين وإظهار الخمر والخنزير ، وكذلك ما أخذ عليهم تركه من التشبه بالمسلمين في ملبوسهم ومركوبهم وشعورهم وكناهم .

[ ص: 1385 ] قال : والجواب أن من أصحابنا من جعله ناقضا للعهد بهذه الأشياء - وهو ظاهر كلام الخرقي ، فإنه قال : " ومن نقض العهد بمخالفة شيء مما صولحوا عليه عاد حربيا " - فعلى هذا لا نسلم ، وإن سلمناه فلما تبين فيها أنه لا ضرر على المسلمين فيها وإنما نهوا عن فعلها لما في إظهارها من المنكر ، وليس كذلك في ملتنا لأن في فعلها ضررا بالمسلمين فبان الفرق ، انتهى كلامه .

قال شيخنا : فعلى التقديرين فقد اقتضى العقد ألا يظهروا شيئا من عيب ديننا ، وأنهم متى أظهروه فقد نكثوا وطعنوا في الدين فيدخلون في عموم الآية لفظا ومعنى ، ومثل هذا العموم يبلغ درجة النص .

التالي السابق


الخدمات العلمية