صفحة جزء
[ ص: 183 ] 24 - فصل

[ حكم بذل الجزية أو الخراج من عين ما نعتقد أنه محرم ]

وإذا بذلوا ما عليهم من الجزية أو الخراج أو الدية أو الدين أو غيره من عين ما نعتقد نحن محرما ، ولا يعتقدون تحريمه كالخمر والخنزير ، جاز قبوله منهم : هذا مذهب أحمد وغيره من السلف .

قال الميموني : قرأت على أبي عبد الله : هل على أهل الذمة إذا اتجروا في الخمر والخنزير العشر ؟ أنأخذ منه ؟ فأملى علي : قال عمر ولوهم بيعها لا يكون هذا إلا على الأخذ .

قلت : كيف إسناده ؟ قال إسناده جيد .

وقال يعقوب بن بختان : سألت أبا عبد الله عن خنازير أهل الذمة وخمورهم ، قال : لا تقتل خنازيرهم فإن لهم عهدا ، وألا تأخذ منهم خمرا ولا خنزيرا يكون لهم بيعها .

وقال عبد الله : قلت لأبي : فإن كان مع النصراني خمر وخنازير ، كيف يصنع بها ؟ فقال : قال عمر : ولوهم بيعها [ وقد قال بعض الناس : يقوم عليهم ] وهو قول شنيع ولا أراه يعجبني .

وكذلك نقل عنه صالح سواء .

[ ص: 184 ] وقال أبو عبيد : " باب أخذ الجزية من الخمر والخنازير " حدثنا عبد الرحمن عن سفيان بن سعيد عن إبراهيم بن عبد الأعلى الجعفي عن سويد بن غفلة قال : بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ناسا يأخذون الجزية من الخنازير ، وقام بلال فقال : إنهم ليفعلون ، فقال عمر رضي الله عنه : لا تفعلوا ، ولوهم بيعها .

وحدثنا الأنصاري عن إسرائيل عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد بن غفلة أن بلالا قال لعمر : إن عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج ، فقال : لا تأخذوها منهم ، ولكن ولوهم بيعها ، وخذوا أنتم من الثمن .

قال أبو عبيد : " يريد أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمة الخمر والخنازير من جزية رءوسهم وخراج أرضيهم بقيمتها ثم يتولى المسلمون بيعها ، فهذا الذي أنكره بلال ونهى عنه عمر ، ثم رخص لهم أن يأخذوا ذلك من أثمانها إذا كان أهل الذمة المتولين لبيعها ; لأن الخمر والخنازير مال من أموال أهل الذمة ولا يكون مالا للمسلمين .

[ ص: 185 ] ومما يبين ذلك ما حدثني به علي بن معبد عن عبيد الله بن عمرو عن الليث بن أبي سليم أن عمر كتب إلى العمال يأمرهم بقتل الخنازير ، ويقضي أثمانها لأهل الجزية من جزيتهم .

قال أبو عبيد : فهو لم يجعلها قصاصا من الجزية إلا وهو يراها مالا من أموالهم فإذا مر الذمي بالخمر والخنازير على العاشر فإنه لا يطيب له أن يعشرها ولا يأخذ ثمن العشر منها ، وإن كان الذمي هو المتولي لبيعها أيضا . . . . وهذا ليس من الباب الأول ولا يشبهه ; لأن ذلك حق وجب على رقابهم وأرضيهم ، والعشر هاهنا إنما هو شيء يوضع على الخمر والخنازير أنفسها فلذلك ثمنها لا يطيب لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه " .

[ ص: 186 ] قال أبو عبيد : وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أفتى في مثل هذا بغير ما أفتى به في ذلك ، وكذلك عمر بن عبد العزيز .

ثنا أبو الأسود المصري ، حدثنا عبد الله بن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة الشيباني أن عتبة بن فرقد بعث إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأربعين ألف درهم صدقة الخمر ، فكتب إليه عمر : بعثت إلي بصدقة الخمر ، وأنت أحق بها من المهاجرين ، وأخبر الناس بذلك ، وقال : والله لا أستعملك على شيء بعدها قال : فنزعه .

قال : وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن المثنى بن سعيد الضبعي قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة : أن ابعث إلي بتفصيل الأموال التي قبلك من أين دخلت ، فكتب إليه بذلك وصنفه له فكان فيما كتب إليه من عشر الخمر أربعة آلاف درهم ، قال : فلبثنا ما شاء الله ثم جاء [ ص: 187 ] جواب كتابه : إنك كتبت إلي تذكر من عشور الخمر أربعة آلاف درهم ، وإن الخمر لا يعشرها مسلم ولا يشتريها ولا يبيعها ، فإذا أتاك كتابي هذا فاطلب الرجل فارددها عليه فهو أولى بما كان فيها فطلب الرجل فردت عليه الأربعة الآلاف وقال : أستغفر الله إني لم أعلم .

قال أبو عبيد : فهذا عندي الذي عليه العمل ، وإن كان إبراهيم النخعي قد قال غير ذلك .

حدثنا يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي كلاهما عن سفيان عن حماد عن إبراهيم في الذمي يمر بالخمر على العاشر ، قال : يضاعف عليه العشور .

قال أبو عبيد : وكان أبو حنيفة يقول : إذا مر على العاشر بالخمر والخنازير - عشر الخمر ولم يعشر الخنازير . سمعت محمد بن الحسن يحدث بذلك عنه .

قال أبو عبيد : وقول الخليفتين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز رحمه الله أولى بالاتباع ألا يكون على الخمر عشر أيضا ، انتهى .

وهذا الفرق هو محض الفقه ، فإنهم إذا تبايعوها فيما بينهم فقد تعاقدوا على ما يعتقدونه مالا ، فإذا أخذناه منهم أخذنا ما هو حلال عندهم ، [ ص: 188 ] وإن كانوا لا يعتقدونه كل سنة كما اكتسبوه بعقود أو مواريث أو أسباب من هبات ووصايا - فغيرها لا يجوز في شرعنا - وعاملونا به أو قضونا إياه مما لنا عليهم ، ساغ لنا أخذه وإن لم يسوغ في شرعنا تلك الأسباب التي حدها ، كما تأخذ المرأة من مهر في عقد نكاح لا نجيزه نحن وهم يعتقدونه نكاحا ، وهذا بخلاف ما سرقوه أو غصبوه أو اكتسبوه بوجه يعتقدون تحريمه كالربا ، فإنه حرام عليهم بنص التوراة .

وأما ما منعه الخليفتان فهو فرض العشر على نفس الخمر والخنازير إذا اتجروا فيها ، فهذا غير أخذ أثمانها منهم إذا كان لنا عليهم ذلك من وجه آخر .

فالفرق بين أن يكون المأخوذ من جهة الخمر والخنازير وبين أن يكون من جهة الجزية والدين والدية وغيرها - ظاهر ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية