صفحة جزء
[ حد جزيرة العرب ]

وقال [ عبد الله ] بن حنبل : [ حدثني أبي قال : ] قال عمي : جزيرة [ ص: 378 ] العرب يعني المدينة وما والاها ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجلى يهود فليس لهم أن يقيموا بها .

وقال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي يقول : حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا يبقى دينان بجزيرة العرب " تفسيره : ما لم يكن في يد فارس والروم .

وقال الأصمعي : كل ما كان دون أطراف الشام .

وقال إبراهيم بن هانئ : سئل أبو عبد الله عن جزيرة العرب ، فقال : ما لم يكن في يد فارس والروم قيل له : ما كان خلف العرب ؟ قال : نعم .

وفي " المغني " : " جزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن ، [ ص: 379 ] قاله سعيد بن عبد العزيز .

وقال الأصمعي وأبو عبيد : هي من ريف العراق إلى عدن طولا ، ومن تهامة وما وراءها إلى أطراف الشام عرضا .

[ ص: 380 ] وقال أبو عبيدة : هي من حفر أبي موسى إلى اليمن طولا ، ومن رمل يبرين إلى منقطع السماوة عرضا .

[ ص: 381 ] قال الخليل : إنما قيل لها : " جزيرة العرب " لأن بحر الحبش وبحر فارس والفرات قد أحاطت بها ، ونسبت إلى العرب لأنها أرضها ومسكنها ومعدنها .

وقول الإمام أحمد : جزيرة العرب : المدينة وما والاها ، يريد مكة واليمامة وخيبر [ ص: 382 ] [ ص: 383 ] والينبع وفدك ومخاليفها وما والاها ، وهذا قول الشافعي : لأنهم لم يعجلوا من تيماء ولا من اليمن .

قلت : وهذا يرد قول سعيد بن عبد العزيز : إنها ما بين الوادي إلى أقصى اليمن ، إلا أن يريد أوله .

[ ص: 384 ] وحديث أبي عبيدة صريح في أن أرض نجران من جزيرة العرب ، فإنه قال : " أخرجوا أهل نجران ويهود أهل الحجاز من جزيرة العرب " ، وكذا قوله لعلي رضي الله عنه : " أخرج أهل نجران من جزيرة العرب " .

قال أبو عبيد : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد قال : جاء أهل نجران إلى علي رضي الله عنه فقالوا : شفاعتك بلسانك ، وكتابك بيدك ، أخرجنا عمر من أرضنا فردها إلينا صنيعة ، فقال : ويلكم إن عمر كان رشيد الأمر ولا أغير شيئا صنعه عمر .

قال أبو معاوية : قال الأعمش : فكانوا يقولون : لو كان في نفسه عليه شيء لاغتنم هذا .

قلت : وهذا يدل على أن حديث علي رضي الله عنه الذي ذكرناه قبل غير محفوظ ، فإنه لو كان عنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بإخراج أهل نجران من جزيرة العرب لم يعتذر بأن عمر قد فعل ذلك ، وكان رشيد الأمر أو لعله نسي الحديث أو أحال على عمر رضي الله عنه قطعا لمنازعتهم وطلبهم .

فإن قيل : فأهل نجران كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صالحهم وكتب لهم كتاب أمن على أرضهم وأنفسهم وأموالهم ، فكيف استجاز [ ص: 385 ] عمر رضي الله عنه إخراجهم ؟ قيل : قد قال أبو عبيد : " إنما نرى عمر قد استجاز إخراج أهل نجران وهم أهل صلح ، لحديث يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم خاصة ، يحدثونه عن إبراهيم بن ميمون مولى آل سمرة عن ابن سمرة عن أبيه عن أبي عبيدة بن الجراح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان آخر ما تكلم به أن قال : " أخرجوا اليهود من الحجاز وأخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب " .

فإن قيل : زدتم الأمر إشكالا ، فكيف أمر بإخراجهم وقد عقد معهم الصلح ؟ قيل : الصلح كان معهم بشروط فلم يفوا بها ، فأمر بإخراجهم .

قال أبو عبيد : وإنما نراه قال ذلك لنكث كان منهم ، أو لأمر أحدثوه بعد الصلح .

قال : وذلك بين في كتاب كتبه عمر رضي الله عنه إليهم قبل إجلائه إياهم منها .

حدثنا ابن أبي زائدة عن ابن عون قال : قال لي محمد بن سيرين : انظر كتابا قرأته عند فلان بن جبير ، فكلم فيه زياد بن جبير ، قال : فكلمته فأعطاني ، فإذا في الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم من عمر أمير المؤمنين إلى أهل رعاش كلهم ، سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو أما بعد : فإنكم زعمتم أنكم مسلمون ثم ارتددتم بعد ، وإنه من يتب [ ص: 386 ] منكم ويصلح لا يضره ارتداده ونصاحبه صحبة حسنة ، فادكروا ولا تهلكوا وليبشر من أسلم منكم ، فإن أبى إلا النصرانية فإن ذمتي بريئة ممن وجدناه بعد عشر تبقى من شهر الصوم من النصارى بنجران .

أما بعد ، فإن يعلى كتب يعتذر أن يكون أكره أحدا منكم على الإسلام أو عذبه عليه إلا أن يكون [ قسرا جبرا و ] وعيدا لم ينفذ إليه منه شيء .

أما بعد ، فقد أمرت يعلى أن يأخذ منكم نصف ما عملتم من الأرض ، وإني لن أريد نزعها منكم ما أصلحتم .

[ ص: 387 ] وقال الشيخ في " المغني " فأما إخراج أهل نجران منها فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالحهم على ترك الربا فنقضوا عهده .

فإن قيل : فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أقر أهل خيبر بها إلى أن قبضه الله وهي من جزيرة العرب ، وأصرح من هذا أنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي بالمدينة على ثلاثين صاعا من شعير أخذه لأهله .

قيل : أما إقرار أهل خيبر فإنه لم يقرهم إقرارا لازما ، بل قال : " نقركم [ ص: 388 ] ما شئنا " وهذا صريح في أنه يجوز للإمام أن يجعل عقد الصلح جائزا من جهته متى شاء نقضه بعد أن ينبذ إليهم على سواء ، فلما أحدثوا ونكثوا أجلاهم عمر رضي الله عنه .

فروى البخاري في " صحيحه " عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه لما فدع أهل خيبر عبد الله بن عمر قام عمر خطيبا فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عامل يهود خيبر على أموالهم ، وقال : " نقركم ما أقركم الله تعالى " ، وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك فعدي عليه من الليل ففدعت يداه ورجلاه وليس لنا هناك عدو غيرهم ، هم عدونا وتهمتنا ، وقد رأيت إجلاءهم .

فلما أجمع عمر رضي الله عنه على ذلك أتاه أحد بني [ أبي ] الحقيق فقال : يا أمير المؤمنين أتخرجنا وقد أقرنا محمد وعاملنا على الأموال وشرط ذلك لنا ؟ فقال عمر رضي الله عنه : أظننت أني نسيت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك [ ص: 389 ] قلوصك ليلة بعد ليلة ؟ فقال : كانت هذه هزيلة من أبي القاسم ، فقال : كذبت يا عدو الله ، قال : فأجلاهم عمر رضي الله عنه وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالا وإبلا وعروضا من أقتاب وحبال وغير ذلك .

وفي " صحيحه " أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أتى [ ص: 390 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر فقاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم ، وغلبهم على الأرض والزرع والنخل فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصفراء والبيضاء والحلقة - وهي السلاح ، ويخرجون منها ، واشترط عليهم ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئا ، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعم حيي - واسمه سعية - : ما فعل مسك حيي الذي جاءوا به من النضير ؟ قال : أذهبته النفقات والحروب ، فقال العهد قريب والمال أكثر من ذلك ، وقد كان حيي قتل قبل ذلك ، فدفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعية إلى الزبير فمسه بعذاب ، فقال : قد رأيت حييا يطوف في خربة هاهنا فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة ، فقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابني أبي الحقيق وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب ، وسبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءهم وذراريهم ، وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا ، وأراد أن يجليهم منها فقالوا : يا محمد دعنا نكن في هذه الأرض نصلحها ونقم عليها ، ولم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها ولا يفرغون أن يقوموا ، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع وتمر ما بدا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 391 ] وكان عبد الله بن رواحة يأتيهم في كل عام يخرصها عليهم ، ثم يضمنهم الشطر فشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شدة خرصه ، وأرادوا أن يرشوه فقال عبد الله : أتطعمونني السحت ؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي ، ولأنتم أبغض الناس إلي من عدلكم من القردة والخنازير ، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على ألا أعدل عليكم .

فقالوا : بهذا قامت السماوات والأرض ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي كل امرأة من نسائه ثمانين وسقا من تمر كل عام وعشرين وسقا من شعير ، فلما كان زمان عمر رضي الله عنه غشوا المسلمين ، وألقوا ابن عمر من فوق بيت ففدعوا يديه ، فقال عمر : من كان له سهم بخيبر فليحضر حتى نقسمها بينهم ، فقسمها عمر رضي الله عنه بينهم .

فقال رئيسهم : لا تخرجنا ، دعنا نكن فيها كما أقرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر ، فقال عمر رضي الله عنه لرئيسهم : أتراه سقط علي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كيف بك إذا رقصت بك راحلتك نحو الشام يوما ثم يوما ثم يوما " ، وقسمها عمر رضي الله عنه بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية
.

[ ص: 392 ] وأما رهن النبي - صلى الله عليه وسلم - درعه عند اليهودي فلعله من اليهود الذين كانوا يقدمون المدينة بالميرة والتجارة من حولها ، أو من أهل خيبر وإلا فيهود المدينة كانوا ثلاث طوائف : بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة .

فأما بنو قينقاع فحاربهم أولا ، ثم من عليهم . وأما بنو النضير فأجلاهم إلى خيبر وأجلى بني قينقاع أيضا ، وقتل بني قريظة وأجلى كل يهودي كان بالمدينة ، فهذا اليهودي المرتهن : الظاهر أنه من أهل العهد قدم المدينة بطعام أو كان ممن لم يحارب فبقي على أمانه ، فالله أعلم .

فهذا أصل إجلاء الكفار من أرض الحجاز ثم اختلف الفقهاء بعد ذلك قال مالك : أرى أن يجلوا من أرض العرب كلها ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب " .

وفي " صحيح مسلم " من حديث عمر رضي الله عنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب ، حتى لا أدع فيها إلا مسلما " .

وقال الشافعي : يمنعون من الحجاز ، وهو مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها وهي قراها .

[ ص: 393 ] أما غير الحرم منه فيمنع الكتابي وغيره من الاستيطان والإقامة به وله الدخول بإذن الإمام لمصلحة كأداء رسالة أو حمل متاع يحتاج إليه المسلمون ، وإن دخل لتجارة ليس فيها كثير حاجة ، لم يؤذن له إلا بشرط أن يأخذ من تجارته شيئا ، ولا يمكن من الإقامة أكثر من ثلاث .

وقد أدخل بعض أصحاب الشافعي اليمن في جزيرة العرب ، ومنعهم من الإقامة فيها وهذا وهم ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذا قبل موته إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا ، وأقرهم فيها وأقرهم أبو بكر بعده ، وأقرهم عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، ولم يجلوهم من اليمن مع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلم يعرف عن إمام أنه أجلاهم من اليمن .

وإنما قال الشافعي وأحمد : يخرجون من مكة والمدينة واليمامة وخيبر وينبع ومخاليفها ولم يذكرا اليمن ، ولم يجلوا من تيماء أيضا وكيف يكون اليمن من جزيرة العرب وهي وراء البحر فالبحر بينها وبين الجزيرة ؟ فهذا القول غلط محض . [ ص: 394 ] [ حكم دخول أهل الذمة الحرم ]

وأما الحرم فإن كان حرم مكة فإنهم يمنعون من دخوله بالكلية ، فلو قدم رسول لم يجز أن يأذن له الإمام في دخوله ، ويخرج الوالي أو من يثق به إليه ولا يختص المنع بخطة مكة بل بالحرم كله .

وأما حرم المدينة فلا يمنع من دخوله لرسالة أو تجارة أو حمل متاع .

التالي السابق


الخدمات العلمية