صفحة جزء
275 - وقد ذكر أبو عبد الله بن بطة في كتاب "الإبانة" ، قال أبو بكر عبد العزيز ، قال : أبو بكر أحمد بن هارون : قال : سألت ثعلبا عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لأحرقت سبحات وجهه " فقال : السبحات - يعني من ابن آدم - الموضع الذي يسجد عليه .

فإن قيل : الحجاب راجع إلى الخلق لأنهم هم المحجوبون عنه بحجاب يخلقه [ ص: 277 ] فيهم ، وهو عدم الإدراك في أبصارهم ، ولا يجوز أن يكون الله سبحانه محتجبا ولا محجوبا بحجاب لأن ما ستر بالحجاب ، فالحجاب أكبر منه ويكون متناهيا محاذيا جائزا عليه المماسة ، ومنه قوله تعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) فجعل الكفار محجوبين عن رؤيته لما خلق فيه من الحجاب ، ويبين هذا أنه لم يضف الحجاب إلى الله تعالى بل أطلق ذكر الحجاب .

ويبين صحة هذا ما روى علي كرم الله وجهه ، رواه عطاء بن السائب ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن علي أنه مر بقصاب وهو يقول : لا والذي احتجب بسبعة أطباق ، فقال علي رضي الله عنه : " ويحك يا قصاب إن الله لا يحتجب عن خلقه " وفي لفظ آخر : " إن الله لا يحتجب عن خلقه بشيء ولكن حجب خلقه عنه " .

قيل : هذا غلط ، لما بينا أننا نثبت حجابا لا يفضي إلى التناهي والمحاذاة والمماسة ، كما أثبتنا رؤيته لا على وجه التناهي والمحاذاة وقوله : " لم يضف الحجاب إليه " غلط لأن في حديث أبي موسى : " حجابه النور " وهذا صريح في الإضافة .

وأما قوله : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) فلسنا نمنع أن يكون الخلق في حجاب عن ربهم ، ولا نمنع أن يكون دونه حجاب من نور لورود الشرع بذلك ، فليس في الآية ما ينفي ذلك .

وأما ما روي عن علي فإنما أنكر على القصاب حجابا معقولا ، لأن القصاب قال : احتجب بالسماوات ، فرجع الإنكار إلى ذلك ، ونحن لا نصف الحجاب بذلك وعلى أنه يعارض قول علي ما ذكره أحمد بن سليمان النجاد بإسناده ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : " والذي نفسي بيده إن دون الله يوم القيامة سبعون [ ص: 278 ] ألف حجاب إن منها حجابا من ظلمة ما ينفذها شيء ، وإن منها لحجابا من نور ما يستطيعه شيء ، وإن منها حجابا لا يسمعها أحد لا يربط الله على قلبه إلا انخلع فؤاده " فإن قيل : قوله في حديث ابن سمرة : " بينه وبين الرب حجاب " المراد به حجاب العبد من رحمة الرب ، يعني أنه كان ممنوعا من الرحمة ، وقوله : " أدخله على ربي " معناه : في رحمة ربي قيل : من سبق في عمله أنه يرحمه لم يجعل بينه وبين رحمته حجاب ، وكذلك من سبق في عمله عذابه لا يجعل بينه وبين العذاب حجاب .

وأما تأويلهم الدخول ، على الدخول في الرحمة فلا يصح كما لم يصح تأويل قوله : " ترون ربكم " على رؤية رحمته .

فإن قيل : قوله : " لو كشفها عن وجهه " معناه : لو كشف رحمته عن النار لأحرقت سبحات وجهه أي أحرقت محاسن وجه المحجوب عنه بالنار ، فالهاء عائدة على المحجوب لا إلى الله تعالى قيل : قد بينا أن السبحات صفة لوجهه سبحانه ، وأن الإحراق يكون لجميع ما يدركه نوره [ ص: 279 ] فإن قيل : لا يصح أن يكون المحدث ولا القديم محجوبا بشيء من سواتر الأجسام المغطية المكتنفة المحيطة ، وإنما يقال لهذه الأجسام الساترة إنها حجاب عن رؤية المحدث لما رآه ، من أجل أن المنع من الرؤية يحدث عنده فيسمى باسم ما يحدث عنده ، وعلى هذا ما نقوله إن البارئ سبحانه لا نراه في الدنيا لأنه في حجاب على طريق المجاز ، وإنما المانع من رؤيته ما يحدثه من المنع ، وإنما كان كذلك لأن المانع من معرفة الشيء ورؤيته ومعاينته ما يمنع من وجود معرفته ومعاينته ، وما يمنع من ذلك فهو الذي يضاد وجوده ، وذلك لا يصح إلا في العرضين المتضادين المتعاقبين ، ولا يصح أن يكون الجسم منها ولا مانعا من عرض أصلا لأنه لا يصح أن يكون بين العرضين والجسم تناف وتضاد .

قيل : هذا لا يمنع من إطلاق اسم الحجاب على القديم سبحانه كما لا يمنع من إطلاقه على غيره ، وإن كان هذا المعنى الذي ذكروه موجودا فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية