صفحة جزء
304 - ونا أبو القسم بإسناده ، عن النواس بن سمعان الكلابي ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع رب العالمين جل اسمه ، إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه " ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك " ، قال : " والميزان بيد الرحمن جل اسمه ، يرفع أقواما ، ويضع آخرين إلى يوم القيامة " [ ص: 316 ] .

اعلم أنه غير ممتنع حمل الخبر على ظاهره في إثبات الأصابع والسبابة والتي تليها على ما روي في حديث جابر ، إذ ليس في حمله على ظاهره ما يحيل صفاته ، ولا يخرجها عما تستحقه ، لما بينا في الخبر الذي قبله ، لأنا لا نثبت أصابعا هي جارحة ولا أبعاضا ، وإنما نطلق ذلك كما أطلقنا تسمية اليدين والوجه والعين وغير ذلك ، ويكون المقصود بالخبر الفزع من الله سبحانه والمسارعة إلى الطاعات والخوف من سوء المنقلب [ ص: 317 ] فإن قيل : يحتمل أن يكون المراد بالأصابع الملك والقدرة ، ويكون فائدته أن قلوبهم في قبضته جارية على قدرته ، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا على طريق المثل ، كما يقال : ما فلان إلا في يدي وخنصري ويريد بذلك أنه عليه مسلط ، وأنه لا يتعذر عليه ما يريده منه ، ويحتمل أن الأصبعين ها هنا بمعنى النعمتين ، وقد تقول العرب : لفلان على فلان أصبع حسن ، إذا أنعم عليه نعمة حسنة ومنه قول الشاعر :

ضعيف العصا بادي العروق ترى له عليه إذا ما أجدب الناس إصبعا

. أي : إذا ما وقع الناس في الجدب والقحط له عليه أثر حسن ، ويحتمل أن يكون معناه بين أثرين من آثار الله عز وجل وفعلين من أفعاله قيل : هذا غلط لوجوه : أحدها : أن حمله على الملك والقدرة والنعم والآثار ، يسقط فائدة التخصيص بالقلب ، لأن جميع الأشياء هذا حكمها ، وأنها في ملكه وبنعمه وبآثاره .

الثاني : أن في الخبر ما يسقط هذا ، وهو قوله : " بين السبابة والتي تليها وأشار بيده هكذا وهكذا " وهذا يمنع من صحة التأويل .

الثالث : أنه لو كان المراد به النعمتين ، لكان القلب محفوظا بها ولم يحتج إلى الدعاء ، ولما دعا بالتثبيت ، لم يصح حمله على النعمتين ، وهذا الثالث جواب ابن [ ص: 318 ] قتيبة لأنه إذا كان بين نعمتين كان محفوظا بتلك النعمتين .

وأما قول الشاعر فهو على طريق المجاز ، فلا يجوز استعماله في صفات الله تعالى لأنه لا حقيقة للمجاز .

وأما قوله : " والميزان بيد الرحمن يرفع أقواما ويضع آخرين " فلا يمتنع إضافة ذلك إليه ، كما لم يمتنع إضافة الخلق لآدم بيده ، ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : " كتب التوراة بيده ، وخلق جنة عدن بيده " وليس لقائل أن يقول : إنا أثبتنا خلق آدم بيده من طريق مقطوع عليه وهو القرآن ، لأن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول صار في حكم المقطوع عليه ، وليس لهم أن يقولوا إن ذلك قصد به فضيلة آدم ، وهذا المعنى معدوم ها هنا ، لأن في ذلك تفضيلا لبعض خلقه على بعض ، تشريفا لهم وتكريما ، وقد قال تعالى : ( ولقد كرمنا بني آدم ) حديث آخر في الإصبع .

التالي السابق


الخدمات العلمية