صفحة جزء
385 - وروى أبو بكر أحمد بن إسحاق الصبغي ، عن أبي واقد الليثي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد ، قال : فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها ، وأما الآخر فجلس خلفهم ، وأما الثالث فأدبر ذاهبا ، فلما فرغ [ ص: 412 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أخبرك عن ثلاثة نفر ، أما أحدهم فأوى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فآواه الله ، وأما الآخر فاستحيا الله فاستحيا الله منه ، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه " .

اعلم أنه غير ممتنع وصف الله تعالى بالحياء ، لا على معنى ما يوصف به المخلوقين من الحياء الذي هو انقباض وتغير وتجمع وخجل ، لاستحالة كونه جسما متغيرا تحله الحوادث لكن نطلق هذه الصفة كما أطلقنا وصفه سبحانه بالإرادة وإن خالفت إرادة المخلوقين لأن إرادته تقتضي وجوب المراد ، وإرادتنا لا تقتضي وجوبه ، وكذلك علمه يقتضي العلم بالمعدوم والموجود خلاف علمنا ، وكذلك رؤيته لا تقتضي وجوده في جهة ، خلاف رؤية بعضنا ، لأنه لو لم يوصف بالحياء جاز أن يوصف بضده وهو القحة ، ولما لم يوصف بضده جاز أن يوصف به ، ألا ترى أنا وصفناه بالعلم والقدرة والكلام ، لأن في نفيها إثبات أضدادها ، وذلك مستحيل عليه [ ص: 413 ] فإن قيل : يحمل قوله : " يستحي " على الترك فيكون قوله : " يستحي " بمعنى لا يترك يدي العبد خالية من خير إذا رفعها إليه في الدعاء ، قالوا : وعلى هذا يتأول قوله تعالى : ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ) أي لا يترك ، لأن المستحي يترك للحياء أشياء ، كما يترك للإيمان وينقطع بالحياء عن المعاصي ، كما ينقطع بالإيمان عنها ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الحياء شعبة من الإيمان " وكذلك قوله : " وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه " فيحتمل أن يكون معناه : أنه يترك أذى القوم بمزاحمتهم في مجلسه ، فترك الله عقوبته وعفا عنه ، وكذلك قوله : " إن ربكم حيي كريم " أنه يترك عقوبة العبد على خطيئته " .

قيل : هذا غلط لأنه يسقط فائدة التخصيص بهذه الصفة ، لأنه قد يعطى مع وجود هذه الصفة التي هي رفع اليدين ومع عدمهما ، فوجب حمله على فائدة ، ولا فائدة إلا إثبات هذه الصفة ، وجواب آخر : وهو أنه لو كان الحياء عبارة عن الترك; لحصل تقدير الخبر : إن الله يترك يده صفرا ، وقد قالوا إن معناه أنه لا يترك يده صفرا من العطاء ، فعلى هذا تحصيل عبارة عن ضد الترك ، فلا تستقيم العبارة والتأويل [ ص: 414 ] .

فأما قوله : " ستير " أي ساتر يستر على عباده كثيرا من عيوبهم ، ولا يظهرها عليهم ، وستير بمعنى ساتر كما جاء قدير بمعنى قادر ، وعليم بمعنى عالم [ ص: 415 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية