صفحة جزء
المجلس السادس عشر :

في قصة موسى والخضر عليهما السلام

الحمد لله جعل العلم للعلماء نسبا ، وأغناهم به وإن عدموا مالا ونشبا ، ولأجله سجدت الملائكة إلا إبليس أبى ، وبحيلة العلم اتكأ إدريس في الجنة واحتبى ، ولطلبه قام الكليم ويوشع وانتصبا ، فسارا إلى أن لقيا من سفرهما نصبا : وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ، أحمده حمدا يدوم ما هبت جنوب وصبا ، وأصلي على رسوله محمد أشرف الخلائق عجما وعربا ، وعلى أبي بكر الذي أنفق المال وما قلل حتى تخلل بالعبا ، وعلى عمر الذي من هيبته ولى الشيطان وهربا ، وعلى عثمان الذي حيته الشهادة فقال مرحبا ، وعلى علي بن أبي طالب الذي ما فل سيف شجاعته قط ولا نبا ، وعلى عمه العباس العالي نسبه على جبال الشرف والربى .

قال الله تعالى : وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا .

معنى الكلام : اذكر يا محمد وإذ قال موسى وهو موسى بن عمران ، لفتاه وهو يوشع بن نون ، وإنما سمي فتاه لأنه كان يلازمه ويأخذ عنه العلم ويخدمه : لا أبرح أي لا أزال ، أي لا أنفك . وليس المراد به لا أزول لأنه إذا لم يزل لم يقطع أرضا . قال الشاعر :


إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة وتحمل أخرى أفرحتك الودائع

أي أثقلتك . ومعنى الآية لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين أي ملتقاهما .

وهو الذي وعده الله تعالى بلقاء الخضر فيه . قال قتادة : بحر فارس وبحر الروم فبحر الروم نحو الغرب وبحر فارس نحو الشرق .

وفي اسم البلد الذي بمجمع البحرين قولان : أحدهما : إفريقية . قاله أبي بن كعب . والثاني : طنجة . قاله محمد بن كعب القرظي .

قوله تعالى : أو أمضي حقبا وقرأ الحسن وقتادة حقبا بإسكان القاف وهما لغتان . قال ابن قتيبة : الحقب : الدهر . يقال حقب وحقب ، كما يقال قفل وقفل ، وأكل وأكل ، وعمر وعمر . ومعنى الآية : لا أزال أسير ولو احتجت أن أسير حقبا .

[ ص: 197 ] فلما بلغا يعني موسى وفتاه مجمع بينهما نسيا حوتهما وكانا قد تزودا حوتا مالحا في مكتل ، فكانا يصيبان منه عند الغداء والعشاء ، فلما بلغا هناك وضع يوشع المكتل فأصاب الحوت بلل البحر فعاش واسترب في البحر ، وقد كان قيل لموسى تزود حوتا مالحا فإذا فقدته وجدت الرجل .

وكان موسى حين ذهب الحوت قد مضى لحاجة ، فعزم يوشع أن يخبره بما جرى فنسي ، وإنما قيل نسيا توسعا في الكلام ، لأنهما جميعا تزوداه . ومثله : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وإنما يخرج من المالح لا من العذب .

فاتخذ سبيله في البحر سربا أي مسلكا . قال ابن عباس : جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة . وفي حديث أبي بن كعب أن الماء صار مثل الطاق على الحوت .

فلما جاوزا ذلك المكان أدركهما النصب فدعا موسى بالطعام فقال يوشع : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت فيه قولان : أحدهما : نسيت أن أخبرك خبر الحوت . والثاني : نسيت حمل الحوت .

واتخذ سبيله في هاء الكناية قولان : أحدهما أنها ترجع إلى الحوت . والثاني :

إلى موسى ، اتخذ سبيل الحوت في البحر ، أي دخل في مدخله فرأى الخضر . فعلى الأول : المخبر يوشع وعلى الثاني المخبر الله عز وجل .

قال موسى : ذلك ما كنا نبغ أي الذي كنا نطلب من العلامة الدالة على مطلوبنا ، لأنه كان قد قيل له : حيث تفقد الحوت تجد الرجل .

فارتدا أي رجعا في الطريق التي سلكاها يقصان الأثر . فوجدا عبدا من عبادنا وهو الخضر . قال وهب : اسمه اليسع . وقال ابن المنادي : أرميا .

وفي تسميته بالخضر قولان : أحدهما : أنه جلس على فروة بيضاء فاهتز ما تحته خضرا . رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والفروة : الأرض اليابسة . والثاني : أنه كان إذا جلس اخضر ما حوله . قاله عكرمة . وقال مجاهد : كان إذا صلى اخضر ما حوله .

وهل كان نبيا ؟ فيه قولان :

[ ص: 198 ] قوله تعالى : آتيناه رحمة من عندنا أي نعمة وعلمناه من لدنا أي من عندنا علما قال ابن عباس : أعطي من علم الغيب .

قال له موسى هل أتبعك وهذا تحريض على طلب العلم وحث على الأدب والتواضع المصحوب ، وإنما قال الخضر : إنك لن تستطيع معي صبرا لأنه كان يعمل بعلم الغيب . والخبر : العلم بالشيء . والمعنى : أنت تنكر ظاهر ما ترى ولا تعلم باطنه . فلما ركبا السفينة قلع الخضر منها لوحا فحشاها موسى بثوبه وأنكر عليه بقوله : أخرقتها والإمر : العجب .

ثم اعتذر بقوله : لا تؤاخذني بما نسيت وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه نسي حقيقة ، والثاني : أنه من معاريض الكلام ، تقديره : لا تؤاخذني بنسياني الذي نسيت في عمري ، فأوهمه بنسيان هذا الأمر . والثالث : أنه بمعنى الترك . والمعنى : لا تؤاخذني بتركي ما عاهدتك عليه . وترهقني بمعنى تعجلني . والمعنى : عاملني باليسر .

فلما لقيا الغلام قتله الخضر ، وهل كان بالغا أم لا ؟ فيه قولان . وفي صفة قتله إياه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه اقتلع رأسه ، وهو في حديث أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم . والثاني : كسر عنقه . قاله ابن عباس : والثالث : أنه أضجعه وذبحه بسكين . قاله سعيد بن جبير .

(قال أقتلت نفسا زاكية) وقرأ ابن عامر : زكية . قال الكسائي : فيها وجهان كالقاسية والقسية . وقال أبو عمرو بن العلاء : الزاكية التي لم تذنب . والزكية التي أذنبت ثم تابت . وقال أبو عبيدة : الزاكية في البدن والزكية في الدين .

التالي السابق


الخدمات العلمية