صفحة جزء
الكلام على قوله تعالى :

لا أقسم بيوم القيامة

قال المفسرون : لا زائدة ، والمعنى : أقسم ، وقال بعضهم : لا رد على منكر البعث ، قال ابن قتيبة : زيدت لا على نية الرد على المكذبين ، كما تقول : لا والله ما ذاك كما تقول .

ولا أقسم بالنفس اللوامة فيها ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها التي تلوم نفسها حين لا ينفعها اللوم ، قاله ابن عباس .

والثاني : أنها نفس المؤمن التي تلومه في الدنيا على تقصيره ، قاله الحسن ، فعلى هذا تكون ممدوحة .

والثالث : أنها جميع النفوس ، قال الفراء : ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها ، إن كانت عملت خيرا قالت : هلا زدت ، أو شرا قالت : ليتني لم أفعل ، وجواب القسم محذوف ، تقديره : لتبعثن ، يدل عليه قوله : أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه والمراد به الكافر .

بلى قادرين المعنى : بل نجمعها قادرين على أن نسوي بنانه والبنان : أطراف الأصابع ، وفي المعنى قولان : أحدهما : أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كحافر الحمار وخف البعير فيعدم الإرفاق بالأعمال اللطيفة ، كالكتابة والخياطة ، هذا قول الجمهور ، والثاني : نقدر على تسوية بنانه كما كانت وإن صغرت عظامها ، ومن قدر على جمع صغار العظام كان على جمع كبارها أقدر ، وهذا قول ابن قتيبة والزجاج .

قوله تعالى : بل يريد الإنسان ليفجر أمامه فيه قولان : أحدهما : يكذب بما أمامه [ ص: 258 ] من البعث والحساب ، قاله ابن ابن عباس ، والثاني : يقدم الذنب ويؤخر التوبة ويقول : سوف أتوب ، قاله سعيد بن جبير ، فعلى هذا يراد بالإنسان المسلم وعلى الأول الكافر .

قوله تعالى : يسأل أيان يوم القيامة أي متى هو ، تكذيبا به ، فهذا هو الكافر .

فإذا برق البصر قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي : برق بكسر الراء ، وقرأ نافع بفتحها ، وهما لغتان ، تقول العرب ، برق البصر يبرق وبرق يبرق ، إذا رأى هولا يفزع منه .

ومتى يبرق البصر ؟ فيه قولان : أحدهما يوم القيامة يشخص بصر الكافر فلا يطرف لما يرى من الأمور التي كان يكذب بها في دار الدنيا ، قاله الأكثرون ، والثاني : عند الموت ، قاله مجاهد .

قوله تعالى : وخسف القمر أي ذهب ضوؤه ، قال أبو عبيدة : خسف وكسف بمعنى واحد .

قوله تعالى وجمع الشمس والقمر قال أبو عبيد : إنما قال جمع لتذكير القمر ، وفي هذا الجمع قولان : أحدهما جمع بين ذاتيهما ، قال ابن عباس : جمعا كالبعيرين وكالفرسين ، وقال عطاء بن يسار : يجمعان ويقذفان في البحر ، وقيل في النار ، وقيل يجمعان فيطلعان من المغرب ، والثاني : جمع بينهما في ذهاب نورهما ، قاله الفراء والزجاج .

قوله تعالى : يقول الإنسان يعني المكذب بيوم القيامة : أين المفر أين الفرار كلا لا وزر أي لا ملجأ إلى ربك يومئذ المستقر أي المنتهى والرجوع ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر فيه ثلاثة أقوال : أحدها : بما قدم قبل موته وما سن من شيء فعمل به بعد موته ، قاله ابن مسعود ، والثاني : بأول عمله وآخره ، قاله مجاهد ، والثالث : بما قدم من الشر وأخر من الخير ، قاله عكرمة وقال : بما قدم من معصيته وأخر من طاعته .

وا أسفا من الصحيفة إن نشرها ، وا حزنا على الذنوب إن أظهرها ، وا حسرتا على خطايا ما غفرها ، من لمن حاد عن الطريق وقد أبصرها ، من لمن شاهد نجاته وكأنه لم يرها ، تالله لقد آذى العاصي نفسه وعثرها ، كم سمع موعظة من مذكر قد كررها ، ثم أعرض عنها بعد أن فهمها وتدبرها ، ويحك إلى متى تضيع زمنك ، وإلى متى إيثار فتنك ، أما آن التنبه [ ص: 259 ] من وسنك ، أما حق أن تميل عن سننك ، يا لاهيا أتنسى وقت حزنك ، يا بائعا نفسه أرضيت الفاني بثمنك ، أين فهمك الثاقب وجودة فطنك ، كم بقي بين سرك وبين علنك ، أين زاد رحيلك وعدة كفنك ، إلى متى مع الدنيا كم مع وثنك ، كيف السبيل إلى صلاحك وتلافيك ، وكل ما ذكره العائب وتلا فيك ، أما يزعجك تخويف : وتلك القرى أهلكناهم أما ينذرك إعلام : وكذلك أخذ ربك أما يقصم عرى عزائمك : وكم قصمنا من قرية أما يقصر من قصورك : وبئر معطلة وقصر مشيد أما يكفي لمثلك مثل : وقد خلت من قبلهم المثلات أما رأيت شمال العقوبة كيف فرقت شملهم ، لقد مرت في جو التخويف تهتف بالعصاة : فكلا أخذنا بذنبه .

يا هذا لا نوم أثقل من الغفلة ، ولا رق أملك من الشهوة ، ولا مصيبة كموت القلب ، ولا نذير أبلغ من الشيب :


ألا تسلو فتقصر عن هواكا فقدر شيب رأسك كان ذاكا     أكل الدهر أنت كما أراكا
تراك إلى الممات كذا تراكا     أراك تزيد حذقا بالمعاصي
وتغفل عن نصيحة من دعاكا

يا قوم غرقت السفينة ونحن نيام ! أبوكم لم يسامح في حبة حنطة ، وداود لم يساهل في نظرة .

يا مدمن الذنوب مذ كان غلاما ، علام عولت قل لي على ما ، أتأمن ما أتى من أتى حراما ، أما ترى ما حل بهم من الذنوب إليك قد ترامى ، آه لجفن علم ما سيلقى كيف يلقى مناما ، أين أرباب الأسمار والندامى ، كل القوم في قبورهم ندامى ، قل لي من اتخذت في أمورك إماما ، أما ما جرى على العصاة يكفي أماما ، إلى كم تضيع حديثا طويلا وكلاما ، ما أرى داءك إلا داء عقاما ، أما تؤثر نيران تخويفك ؟ صارت بردا وسلاما .


فذكر النفس هولا أنت راكبه     وكربة سوف تلقى بعدها كربا
إذا أتيت المعاصي فاخش غايتها     من يزرع الشوك لا يجني به عنبا

إلى متى أعمالك كلها قباح ، أين الجد ؟ إلى كم مزاح ، كثر الفساد فأين الصلاح ، ستفارق الأجساد الأرواح ، إما في غدو وإما في رواح ، سينقضي هذا المساء والصباح ، وسيخلو البلى بالوجوه الصباح ، أفي هذا شك أم الأمر مزاح ، أين سكران الراح راح ، [ ص: 260 ] حل للبلى والدود مباح ، لهما اغتباق به ثم اصطباح ، عليه نطاق من التراب ووشاح ، عنوانه لا يزول مفهومه لا براح ، أتاه منكر ونكير كذا في الأحاديث الصحاح ، فمن لمحتج مرعوب ومقاتل بلا سلاح ، مشغول عن من مدح أو ذم أو بكى أو ناح ، لو قيل له تمن كان العود الاقتراح ، وأنى وهل يطير مقصوص الجناح .

إخواني ، لا تقولوا : من مات استراح ، أما هذا لنا قليل ، إنا لوقاح .


أنس الناس بالغير     وتعاموا عن العبر
قل للاه بيومه     في غد تعرف الخبر
يا بني الحرص والتكا     ثر والبغي والبطر
ليس باق كفان     فكونوا على حذر
يا ضجيع البلى على     فرش الصخر والمدر
قد تزودت مأثما     وإلى ربك السفر

التالي السابق


الخدمات العلمية