صفحة جزء
[ ص: 270 ] المجلس الثالث والعشرون

في قصة يونس عليه السلام

الحمد لله الواحد الماجد العظيم ، الدائم العالم القائم القديم ، القدير البصير النصير الحليم ، القوي العلي الغني الحكيم ، قضى فأسقم الصحيح وعافى السقيم ، وقدر فأعان الضعيف وأوهى القويم ، وقسم عباده قسمين طائع وأثيم ، وجعل مآلهم إلى دارين دار النعيم ودار الجحيم ، فمنهم من عصمه من الخطايا كأنه في حريم ، ومنهم من قضى له أن يبقى على الذنوب ويقيم ، ومنهم من يتردد بين الأمرين والعمل بالخواتيم ، خرجموسى راعيا وهو الكليم ، وذهب ذو النون مغاضبا فالتقمه الحوت وهو مليم ، وكان محمد صلى الله عليه وسلم يتيما فكان الكون لذلك اليتيم ، وعصى آدم وإبليس فهذا مرحوم وهذا رجيم ، فإذا سمعت بنيل الممالك أو رأيت وقوع المهالك فقل : ذلك تقدير العزيز العليم أنعم علينا بالفضل الوافر العميم ، وهدانا بمنه إلى الصراط المستقيم ، وحذرنا بلطفه من العذاب الأليم ، ومن علينا بالكتاب العزيز القديم ، فهو مستحق الحمد ومستوجب التعظيم ، أحمده وكيف لا يحمد ، وأشهد أنه لم يلد ولم يولد ، وأن محمدا عبده الأمجد ورسوله الأوحد ، أخذ له الميثاق على أقرب الأنبياء والأبعد ، وأقام عيسى يقول : ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد وتوسل به آدم وقد أسجد له من أسجد من ملك كريم ، صلى الله عليه وسلم ما سلك الطريق القويم ، وعلى صاحبه أبي بكر الصديق السابق إلى الإيمان والتصديق ، المحب الشفيق والرفيق الرقيق حين يسافر وحين يقيم ، وعلى عمر الذي عمر من الدين ما عمر ودفع الكفر فدبر بأحسن تدبير وأكمل تقويم ، وعلى عثمان الشريف قدره الكثيف ستره الذي احتسب عند الله صبره على ما ضيم ، وعلى علي مدار العلماء وقطبهم ، ومقدم الشجعان في حربهم والمؤمنون من كربهم في مقعد مقيم ، وعلى العباس عمه وصنو أبيه ، أقرب الخلق إليه نسبا يليه .

قال الله تعالى : وإن يونس لمن المرسلين يونس اسم أعجمي ، وفيه ست لغات : ضم النون وفتحها وكسرها والهمز مع اللغات الثلاث .

وكان يونس من ولد يعقوب ، وكان عابدا من عباد بني إسرائيل فرأى ما هم فيه من [ ص: 271 ] الكفر ، فخاف أن تنزل بهم عقوبة ، فخرج هاربا بنفسه وذريته وكانوا بنينوى قرية من أرض الموصل ، فبعثه الله رسولا إليهم فدعاهم إلى الله تعالى وأمرهم بترك عبادة الأوثان ، وكان رجلا فيه حدة ، فلما لم يقبلوا أخبرهم أن العذاب مصبحهم بعد ثلاث ، فأقبل العذاب ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يبق بين العذاب وبينهم إلا قدر ثلثي ميل ووجدوا حره على أكتافهم ، وقال سعيد بن جبير : غشيهم العذاب كما يغشى الثوب الضفر ، وقال غيره : غامت السماء غيما أسود يظهر دخانا شديدا فغشى مدينتهم فاسودت أسطحتهم ، فلما أيقنوا بالهلاك لبسوا المسوح وحثوا على رؤوسهم الرماد ، وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام وعجوا إلى الله تعالى بالتوبة الصادقة وقالوا : آمنا بما جاء به يونس ، فكشف عنهم العذاب فقيل ليونس : ارجع إليهم فقال : كيف أرجع إليهم فيجدوني كاذبا ، وكان من يكذب فيهم يقتل ، فركب السفينة مغاضبا .

فإن قيل : فلمن غاضب ؟ فالجواب : أنه غاضب قومه قبل التوبة واشتهى أن ينزل بهم العذاب لما عانى من تكذيبهم ، فعوتب على كراهية العفو عنهم ، فلما ركب السفينة وقفت : فقال : ما لسفينتكم ؟ قالوا : لا ندري ، قال : لكني أدري ، فيها عبد أبق من ربه وإنها والله لا تسير حتى تلقوه ، قالوا أما أنت والله يا نبي الله لا نلقيك ، قال : فاقترعوا فقرع يونس ، وهو معنى قوله تعالى : فساهم فألقى نفسه في الماء فالتقمه الحوت وهو مليم أي مذنب فلولا أنه كان من المسبحين أي من المصلين قبل التقام الحوت ، وقيل : بل في بطن الحوت .

وفي قدر مكثه في بطن الحوت خمسة أقوال : أحدها : أربعون يوما ، قاله أنس وكعب وابن جريج ، والثاني : سبعة أيام ، قاله سعيد بن جبير ، والثالث : ثلاثة أيام ، قاله مجاهد وقتادة ، والرابع : عشرون يوما ، قاله الضحاك ، والخامس ، بعض يوم ، قال الشعبي : ما مكث إلا أقل من يوم ، التقمه الحوت ضحى فلما كان بعد العصر وقاربت الشمس الغروب تثاءب الحوت فرأى يونس ضوء الشمس فقال : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .

فنبذناه بالعراء وهي الأرض التي لا يتوارى فيها بشجر ولا غبرة وهو سقيم أي مريض ، قال ابن مسعود : كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس له ريش وأنبتنا عليه شجرة من يقطين [ ص: 272 ] وهي الدباء وإنما أنبتت عليه دون غيرها ليغطيه ورقها ويمنع الذباب عنه فإنه لا يسقط على ورقه ذبابة ، وقيض الله تعالى أروية من الوحش تروح عليه بكرة وعشية فيشرب من لبنها ، وقال وهب بن منبه : أنبت الله عليه الدباء فأظلته ، ورأى خضرتها فأعجبته ، ثم نام فاستيقظ وقد يبست فحزن عليها فقيل له : أنت لم تخلق ولم تسق ولم تنبت تحزن عليها ، وأنا الذي خلقت مائة ألف من الناس أو يزيدون ثم رحمتهم فشق عليك ! .

قوله تعالى : وأرسلناه إلى مائة ألف المعنى : وكنا أرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون المعنى : بل يزيدون ، قاله ابن عباس ، والثاني : أنها بمعنى الواو تقديره : ويزيدون قاله ابن قتيبة .

وفي زيادتهم أربعة أقوال : أحدها : عشرون ألفا ، رواه أبي ابن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والثاني : ثلاثون ألفا ، والثالث : بضعة وثلاثون ألفا ، والقولان عن ابن عباس ، والرابع : سبعون ألفا ، قاله سعيد بن جبير .

فإن قيل : كيف قبلت توبتهم ولم يقبل إيمان فرعون .

فالجواب من ثلاثة أوجه : أحدها : أن ذلك كان خاصا لهم ، كما في الآية ، والثاني : أن فرعون باشره العذاب ، وهؤلاء لم يباشرهم ، ذكره الزجاج ، والثالث : أن الله تعالى علم منهم صدق النيات بخلاف غيرهم ، ذكره ابن الأنباري .

فانظروا إخواني إلى التوبة النصوح الصادقة كيف أثرت ، وقاومت العذاب فدفعت ونفعت ، فليلجإ العاصي إلى حرم الإنابة ، وليطرق بالأسحار باب الإجابة ، فما صدق صادق فرد ، ولا أتى الباب مخلص فصد ، وكيف يرد من قد استدعي فقيل لهم : توبوا إنما الشأن في صدق التوبة .

وليست التوبة نطق اللسان إنما هي ندم القلب وعزمه أن لا يعود ، ومن شرط صحتها : أن تكون قبل معاينة أمور الآخرة ، فمن باشره العذاب أو عاينه فقد فات موسم القبول ، فاستدركوا قبل المفاجأة بالفوات الذي لا يؤمن نسأل الله يقظة تحركنا إلى البدار قبل أن يقع الفوت والخسار .

التالي السابق


الخدمات العلمية