صفحة جزء
[ ص: 385 ] قوله تعالى : ذلك مثلهم في التوراة أي صفتهم . والمعنى : أن صفة محمد وأصحابه في التوراة هكذا .

فأما قوله : ومثلهم في الإنجيل ففيه ثلاثة أقوال : أحدها : أن هذا المثل المذكور أنه مثلهم في التوراة هو مثلهم في الإنجيل . قاله مجاهد . والثاني : أن المتقدم مثلهم في التوراة ، فأما مثلهم في الإنجيل فهو كزرع . قاله الضحاك . والثالث : أن مثلهم في التوراة والإنجيل كزرع . ذكره أبو سليمان الدمشقي .

قوله تعالى أخرج شطأه أي فراخه . يقال قد أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا أفرخ فآزره أي ساواه وصار مثل الأم فاستغلظ أي غلظ فاستوى على سوقه وهو جمع ساق .

وهذا مثل ضربه الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم إذ خرج وحده فأيده بأصحابه ، كما قوى الطاقة من الزرع بما نبت منها حتى كثرت وغلظت واستحكمت .

وفيمن أريد بهذا المثل قولان : أحدهما : أن أصل الزرع عبد المطلب .

أخبرنا هبة الله بن أحمد الحريري ، أنبأنا محمد بن علي بن الفتح ، أخبرنا الحسين بن شمعون ، أنبأنا أبو بكر محمد بن جعفر بن محمد ، حدثنا أبو العباس عيسى بن إسحاق الأنصاري ، حدثنا الحسين بن الحارث بن طليب الهاشمي ، عن أبيه ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله عز وجل : شطأه قال : أصل الزرع عبد المطلب ، أخرج شطأه : أخرج محمدا صلى الله عليه وسلم فآزره بأبي بكر فاستغلظ بعمر فاستوى ) بعثمان على سوقه علي بن أبي طالب .

والثاني : أن المراد بالزرع محمد .

أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزاز ، أنبأنا أبو عمر الجوهري ، أنبأنا الحسين بن محمد بن عبيد ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله المخزومي ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ؛ حدثنا علي بن إبراهيم ، حدثنا الحسين بن علي الهمداني ، حدثنا محمد بن عبد العزيز ، عن الضحاك عن ابن عباس : كزرع قال : الزرع محمد . أخرج شطأه أبو بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلي يعجب الزراع قال : المؤمنون : ليغيظ بهم الكفار قال : يقول عمر لأهل مكة : لا يعبد الله عز وجل بعد يومنا هذا سرا .

قال مالك بن أنس : من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية .

[ ص: 386 ] واعلم أن فضائل الصحابة على جميع صحابة الأنبياء ظاهرة وكان لسبقهم سببان : أحدهما : خلوص البواطن من الشك بقوة اليقين . وإلى هذا أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما سبقكم أبو بكر بكثير صوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره " . والثاني : بذل النفوس للمجاهدة والاجتهاد . وقد علم ما جرى لموسى مع أصحابه وعلم صبر صحابتنا .

ولما استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم بدر قال المقداد : والله لو ضربت بطونها حتى تبلغ برك الغماد لتابعناك ، ولا نقول كما قال قوم موسى : فاذهب أنت وربك فقاتلا .

وكان أبو طلحة يوم أحد يقول : نحري دون نحرك . وقتل يومئذ زوج امرأة وأبوها وابنها وأخوها فقالت : يا رسول الله لا أبالي إذ سلمت من عطب !

قال ابن مسعود : إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد ، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه صلى الله عليه وسلم .

وقال ابن عمر : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير هذه الأمة ، أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا ، قوم اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه ونقل دينه .

قال أبو زرعة : شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع أربعون ألفا من الصحابة ، وشهد معه تبوك سبعون ألفا ، وقبض عن مائة ألف وأربعة عشر ألفا من الصحابة ، ممن روى عنه وسمع منه .

أخبرنا محمد بن عبد الملك ويحيى بن علي ، قالا أخبرنا ابن المسلمة ، أنبأنا أبو طاهر المخلص ، حدثنا البغوي ، حدثنا محمد بن عباد المكي ، حدثنا محمد بن طلحة المديني ، عن عبد الرحمن بن سالم بن عبد الله بن عويم بن ساعدة ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله اختارني واختار لي أصحابا ، فجعل لي منهم وزراء وأنصارا ، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا " . تفرد برواية هذا الحديث محمد بن طلحة ، وكان ثقة .

وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه " .

[ ص: 387 ] أخبرنا هبة الله بن محمد ، أخبرنا الحسن بن علي ، أنبأنا أحمد بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق ، حدثني صدقة بن يسار ، عن عقيل بن جابر ، عن جابر بن عبد الله فيما يذكر من اجتهاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فغشينا دارا من دور المشركين فأصبنا امرأة رجل منهم ، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا وجاء صاحبها وكان غائبا فذكر له مصابها فحلف لا يرجع حتى يهريق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دما .

فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق فنزل في شعب من الشعاب وقال : من رجل يكلؤنا فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقالا : نحن يا رسول الله . قال فخرجا إلى فم الشعب دون العسكر . ثم قال الأنصاري للمهاجري : أتكفيني آخره وأكفيك أوله ؟ قال فقال المهاجري : بل اكفني أوله وأكفيك آخره . فنام المهاجري وقام الأنصاري فافتتح سورة من القرآن ، فبينا هو فيها يقرأها جاء زوج المرأة فلما رأى الرجل قائما عرف أنه ربيئة القوم ، فنزع له السهم فيضعه فيه . قال : فينزعه فيضعه وهو قائم يقرأ في السورة التي هو فيها ولم يتحرك كراهية أن يقطعها ، قال : ثم عاد له زوج المرأة الثالثة بسهم فوضعه فيه ، ثم ركع وسجد ثم قال لصاحبه : اقعد فقد أثبت . قال : فجلس المهاجري فلما رآهما صاحب المرأة هرب وعرف أنه قد نذر به ، وأن الأنصاري يفوح دما من رميات صاحب المرأة قال فقال له أخوه : يغفر الله لك ! ألا كنت آذنتني أول ما رماك ؟ قال : فقال : كنت في سورة من القرآن قد افتتحتها أصلي فيها ، فكرهت أن أقطعها ، وايم الله لولا أن أضيع ثغرا أمرني رسول الله بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها .

فسبحان من خصهم بهذه الفضائل وحرسهم من القصور والرذائل .

التالي السابق


الخدمات العلمية