صفحة جزء
الكلام على قوله تعالى :

ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة

المراد بالماء ههنا المطر . وقد جعل الله عز وجل الريح سببا لإثارته ، فقال عز وجل : والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينزعج إذا رأى الريح أو الغيم .

أخبرنا هبة الله بن محمد بسنده ، عن أبي النضر ، عن سليمان بن يسار ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه ، فقلت يا رسول الله الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر ، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية . فقال : يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ؟ قد عذب قوم بالريح ، وقد رأى قوم العذاب ، فقالوا : هذا عارض ممطرنا .

أخرجاه في الصحيحين .

[ ص: 581 ] وقال ابن عباس : الرياح ثمان : أربع رحمة ، وأربع عذاب . الرحمة : المبشرات ، والمنشرات ، والمرسلات ، والرخاء . والعذاب : العاصف ، والقاصف وهما في البحر ، والعقيم والصرصر ، وهما في البر .

وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها ، قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال : اللهم إني أسألك خيرها ، وخير ما فيها ، وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها ، وشر ما أرسلت به .

وروى ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال : " اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك " .

قال ابن عباس : الرعد صوت ملك يزجر السحاب كما ينعق الراعي بالغنم . وكان ابن الزبير إذا سمع صوت الرعد يقول : إن هذا وعيد شديد لأهل الأرض ، وقال شهر بن حوشب : الرعد ملك موكل بالسحاب يسوقه كما يسوق الحادي الإبل يسبح كلما خالفت سحابة صاح بها ، فإذا اشتد غضبه طار النار من فيه .

وسمع سليمان بن عبد الملك صوت الرعد فانزعج ، فقال عمر بن عبد العزيز : هذا صوت رحمة فكيف لو جاء بسخط ؟ !

وقال علي كرم الله وجهه : البرق مخاريق بأيدي الملائكة يسوقون بها السحاب ، وقال أبو الجلد : البرق هو تلألؤ الماء ، والصواعق مخاريق يزجر بها السحاب .

قال عطاء : الصاعقة لا تصيب ذاكر الله تعالى .

وقال ابن عباس : ما من عام أكثر مطرا من عام ، ولكن الله تعالى يصرفه في الأرضين .

قال عطاء بن أبي رباح : قال موسى عليه السلام : يا رب هذا الغيث لا ينزل ، وينزل فلا ينفع ؟ قال : لكثرة الزنا وظهور الربا .

وقال عمر رضي الله عنه : إن الرجف من كثرة الزنا ، وإن قحوط المطر من قضاة السوء ، وأئمة الجور .

أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك بسنده ، عن محمد بن واسع ، عن سمير بن نهار ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال ربكم عز وجل : لو أن عبادي أطاعوني لسقيتهم المطر بالليل ، وأطلعت عليهم الشمس بالنهار ، ولم أسمعهم صوت الرعد " .

[ ص: 582 ] قال هارون : وحدثنا عفان بن مبارك ، عن فضالة ، قال : سمعت الحسن ، يقول : كانوا يقولون - يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - الحمد لله الذي لو جعل هذا الخلق خلقا دائما لا يتصرف لقال الشاك في الله عز وجل : لو كان لهذا الخلق رب لحادثه ، وإن الله تعالى قد حادث بما ترون من الآيات ، إنه قد جاء بضوء طبق ما بين الخافقين ، وجعل فيها معاشا وسراجا وهاجا ، ثم إذا شاء ذهب بذلك الخلق ، وجاء بظلمة طبقت ما بين الخافقين وجعل فيها سكنا ونجوما وقمرا منيرا ، وإذا شاء بنى بناء جعل فيه المطر والرعد والبرق والصواعق ، وإذا شاء صرف ذلك ، وإذا شاء جاء ببرد يقرقف الناس ، وإذا شاء جاء بحر يأخذ بأنفاس الناس ؛ ليعلم الناس أن لهذا الخلق ربا يحادثه بما يرون من الآيات كلها ، كذلك إذا شاء ذهب بالدنيا وجاء بالآخرة .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استسقى يقول : " اللهم اسق عبادك وبهائمك ، وانشر رحمتك ، اللهم اسقنا غيثا هنيئا مريعا غدقا طبقا عاجلا غير رائث ، نافعا غير ضار ، اللهم اسقنا سقيا وادعة نافعة " .

قال أنس : " أصابنا مطر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه المطر ، وقال : إنه حديث عهد بربه " .

وفي لفظ : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقي ثيابه أول مطرة تمطر " .

وقال عكرمة : كان ابن عباس إذا مطر يقول : يا عكرمة أخرج الرياح أخرج كذا حتى يصيبه المطر .

وقال عبيد بن عمير : يبعث الله ريحا فتقيم الأرض ، ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب ، ثم يبعث المؤلفة فتؤلفه ، ثم يبعث اللواقح فتلقح الشجر .

وقال عكرمة : ينزل الله عز وجل الماء من السماء السابعة فتقع القطرة منه على السحاب مثل البعير . قال كعب : والسحاب غربال المطر ولولا السحاب لأفسد ما يقع عليه .

وقال ابن عباس : المطر مزاجه من الجنة ، فإذا كثر المزاج كثرت البركة ، وإذا جاء القطر من السماء فتحت له الأصداف فكان لؤلؤا .

[ ص: 583 ] وفي حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " عند نزول الغيث تفتح أبواب السماء ويستجاب الدعاء " .

قال المفسرون : إذا نزل القطر على الأرض اهتزت أي تحركت للنبات ، فإذا أراد الخروج ارتفعت عنه ، فهو معنى قوله عز وجل وربت وأنبتت من كل زوج أي من كل جنس بهيج أي أنه يبهج ويسر .

يا من قد أجدبت أرض قلبه ، متى تهب ريح المواعظ فتثير سحابا ، فيه رعود تخويف ، وبروق خشية ، فتقع قطرة على صخر القلب فيتروى وينبت ؟ !

يا من أجدبت أرض قلبه ، واشتغل عنها ولها ، اخرج إلى صحراء التيقظ واستسق لها ، هيهات أن تخضر أرض القلب حتى يتروى الخد من عين العين . لا تيأس من جدب الجدب ، فليس بمستحيل أن يستحيل .

سجع :

سبحان المتفرد بالقدرة ، فلا تقدر الخلائق قدره ، أنعم فمن يطيق شكره ، كلا إن الغافل في سكرة أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة .

جل صفة وعز اسما ، وبسط أرضا ورفع سما ، وأنزل من السماء ماء ، فحمى النبات فسموه جمرة فتصبح الأرض مخضرة .

تعرفه القلوب والألباب ، ويسبحه الصحو والضباب ، انبعث الغيم فما توقف السحاب ، أقبل الرعد في صرة فتصبح الأرض مخضرة .

تأخر الغيث فتمكن الضر ، ثم جاء فالمؤمن بذلك سر ، فاستغاث النبات مما عر ، فجاء بعد أن كان قد مر ، كم كر كرة بعد كرة فتصبح الأرض مخضرة .

أصبح الثرى عطشان ينادي واليبس عليه ظاهر بادي ، فصاح الرعد بالسحاب صياح الحادي ، فتروى الوادي وسالت الجرة فتصبح الأرض مخضرة .

انبعث السحاب فطبق الأرجا ، وصاح البدوي في البدو : النجا ، والجرون متلفعة بالغثا ، دب ثم نعش ثم قطقط ثم أفرط ثم جاء بكرة فتصبح الأرض مخضرة .

انكشفت سماء الأرض عن بدورها ، وأذنت الغائبات النبات في حضورها ، ولم تخن الأرض من بذر نباتها ذرة فتصبح الأرض مخضرة .

[ ص: 584 ] أحضرت أمهات الزرع عن بناتها ، واجتمعت الأغصان بالقطر بعد شتاتها ، وتزينت للناظرين بأنواع نباتها ، ولقد كانت عرة فتصبح الأرض مخضرة .

فشت الزينة في الصحاري والبرى ، وأظهرت عجائب القدرة فيما برى ، وأشاع الثرى كما ترى من المكتوم سره فتصبح الأرض مخضرة .

ماتت تحت الأرض كل البذور ، فإذا الرعد ينفخ في الصور ، فضحك النور بالنور لما سره فتصبح الأرض مخضرة .

قام ميت البذر من حفرته ، وقدم بعد طول سفرته ، ومنح النبات لكثرته ، قانعة ومعترة فتصبح الأرض مخضرة .

تكلمت الأطيار والمعنى مفهوم ، وارتاحت بنطقها حتى البوم ، وتبدلت الأرض الفرح من الهموم ، فانقلبت تلك الغموم كلها مسرة فتصبح الأرض مخضرة .

جيدت الأرض فروت التراب ، وأجيدت المواعظ فهل أحضرت الألباب ؟ ! ، وما يؤثر اللوم والعتاب ، إلا عند نفس حرة فتصبح الأرض مخضرة .

والحمد لله وحده ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .

[ ص: 585 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية