صفحة جزء
[ ص: 151 ] المجلس الثاني عشر

في قصة يوسف عليه السلام

الحمد لله أحسن الخالقين وأكرم الرازقين ، مكرم الموفقين ومعظم الصادقين ومجل المتقين ، ومذل المنافقين ، حفظ يوسف لعلمه بعلم اليقين ، فألبسه عند الهم دروعا يقين ، وملكه إذا ملك عنان الهوى ميدان السابقين ، فذل له إخوته يوم : وما كنا سارقين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين .

أحمده حمد الشاكرين وأصلي على رسوله محمد أشرف الذاكرين ، وعلى أبي بكر سابق المبكرين ، وعلى عمر سيد الآمرين بالمعروف والمنكرين ، وعلى عثمان الشهيد بأيدي الماكرين ، وعلى علي إمام العباد المتفكرين ، وعلى عمه العباس أبي الخلفاء الراشدين .

قال الله عز وجل : تالله لقد آثرك الله علينا .

كان يعقوب قد ولد في زمن إبراهيم ونبئ في زمانه أيضا ، وكان هو والعيص توأمين فاختصما فخرج هاربا إلى خاله لابان فزوجه ابنته ليا ، فولدت له روبيل ثم شمعون ولاوي ويشجب ويهوذا وزبالون ، ثم توفيت فتزوج أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين ، ومعناه ابن الوجع لأنها ماتت في نفاسه ، وولد له من غيرها أربعة ، فكان أولاده اثني عشر ، وهم الأسباط .

وكان أحب الخلق إليه يوسف ، فحسده إخوته فاحتالوا عليه ، فقالوا يا يوسف أما تشتاق أن تخرج معنا فتلعب وتتصيد ؟ فقال : بلى ، قالوا : فسل أباك أن يرسلك معنا ، فاستأذنه فأذن له ، فلما أصحروا أظهروا له ما في أنفسهم من العداوة ، فجعل كلما التجأ إلى شخص منهم آذاه وضربه ، فلما فطن لما عزموا عليه قال : يا أبتاه يا يعقوب لو رأيت يوسف وما نزل به من إخوته لأحزنك ذلك وأبكاك ، يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك وضيعوا وصيتك ، فأخذه روبيل فضرب به الأرض وجثم على صدره ليقتله وقال : يا بن راحيل قل لرؤياك تخلصك ، وكان قد رأى وهو ابن سبع سنين الشمس والقمر والنجوم ساجدين له ، فصاح : يا يهوذا حل بيني وبين من يريد قتلي ، فقال يهوذا : ألقوه في غيابة [ ص: 152 ] الجب ، فنزعوا قميصه لإلقائه ، فقال : ردوه علي أستر به عورتي ويكون كفنا لي في مماتي .

فلما ألقوه أخرج الله له حجرا مرتفعا من الماء فاستقرت عليه قدماه ، وكان يعقوب ، عليه السلام ، قد أدرج قميص إبراهيم عليه السلام الذي كسيه يوم ألقي في النار في قصبة وجعلها في عنق يوسف ، فبعث الله عز وجل ملكا فاستخرج القميص فألبسه إياه وأضاء له الجب وعذب ماؤه ، وجاءه جبريل يؤنسه ، فلما أمسى نهض جبريل ليذهب ، فقال له يوسف : إنك إذا خرجت عني استوحشت فقال : إذا رهبت شيئا فقل : يا صريخ المستصرخين ويا غياث المستغيثين ، ويا مفرج كرب المكروبين ، قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري ، فلما قالها حفت به الملائكة فاستأنس بهم .

وذبح إخوته جديا فلطخوا به القميص ، وقالوا أكله الذئب ، ومكث في الجب ثلاثة أيام وإخوته يرعون حوله ، ويهوذا يأتيه بالقوت .

فلما جاءت السيارة تسقي من الجب تعلق بالحبل فأخرجوه ، فجاء إخوة يوسف فقالوا : هذا عبد أبق منا ، فباعوه منهم بعشرين درهما وحلة ونعلين .

فحملوه إلى مصر فوقفوه للبيع ، فتزايد الناس في ثمنه ، حتى بلغ وزنه مسكا ووزنه ورقا ووزنه حريرا ، واشتراه بذلك قطفير ، وكان أمين ملكهم وخازنه ، وقال لامرأته زليخا : أكرمي مثواه ، فراودته فعصم منها ، فسجنته إذ لم يوافقها ، فبقي مسجونا إلى حين منام الملك ، فلما أخرجه من السجن فوض إليه أمر مصر ، فجمع الأقوات في زمن الرخاء وباع في زمن القحط ، فروي أنه باع مكوك بر بمكوك در ، وباع أهل مصر بأموالهم وحليهم ومواشيهم وعقارهم وعبيدهم ، ثم بأولادهم ثم برقابهم ، ثم قال : إني قد أعتقتهم ورددت عليهم أموالهم ، وكان يوسف عليه السلام لا يشبع في تلك الأيام ويقول : أخاف أن أنسى الجائع ، وبلغ القحط إلى كنعان فأرسل يعقوب ولده للميرة ، وقال : يا بني قد بلغني أن بمصر ملكا صالحا فانطلقوا إليه فأقرئوه مني السلام ، فمضوا فدخلوا عليه فعرفهم وأنكروه ، فقال : من أين أتيتم ؟ فقالوا : من أرض كنعان ، ولنا شيخ يقال له يعقوب ، وهو يقرؤك السلام ، فبكى وعصر عينيه وقال : لعلكم جواسيس ، فقالوا : لا والله ، قال : فكم أنتم ؟ قالوا : أحد عشر ، وكنا اثني عشر ، فأكل أحدنا الذئب ، فقال ائتوني بأخيكم الذي من أبيكم ، ثم درج بضاعتهم في رحالهم ، فعادوا إلى أبيهم ، فقالوا : إنا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل ، فقال يعقوب : هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل ؟ ! ثم حمله احتياجه إلى الطعام إلى أن أرسله معهم .

[ ص: 153 ] فلما دخلوا على يوسف أجلس كل اثنين على مائدة ، فبقي بنيامين وحيدا يبكي ، وقال : لو كان أخي حيا لأجلسني معه ! فضمه يوسف إليه وقال : أتحب أن أكون أخاك ؟ فقال : أيها الملك ومن يجد أخا مثلك ، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل ، فبكى يوسف وقام إليه فاعتنقه وقال أنا أخوك ، ثم احتال عليه فوضع الصاع في رحله ، فلما لم يقدروا على خلاصه أقاميهوذا ورجعوا إلى يعقوب يقولون : إن ابنك سرق ، فتلقاهم بصبر جميل وانفرد بحزنه .

قال الحسن : ما فارقه الحزن ثمانين سنة ، وما جفت عيناه ، وما أحد أكرم على الله منه .

ثم إن ملك الموت لقي يعقوب فسأله : هل قبضت روح يوسف ؟ قال : لا ، فأصبح يقول لبنيه : اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه فلما عادوا إليه ببضاعة مزجاة وهي القليلة ، وقفوا موقف الذل ، وقالوا : تصدق علينا ، فقال : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وكشف الحجاب عن نفسه ، فعرفوه فقالوا : أإنك لأنت يوسف فحينئذ قالوا : تالله لقد آثرك الله علينا قال الزجاج : تالله بمعنى : والله ، إلا أن التاء لا يقسم بها إلا في الله عز وجل ، ولا يجوز : تالرحمن ولا تربي ، والتاء تبدل من الواو كما قالوا في وراث : تراث . وقالوا : يتزن . وأصله يوتزن ، من الوزن .

ومعنى آثرك الله اختارك وفضلك ، وكان فضل عليهم بالحسن والعقل الحلم والصبر وغير ذلك وإن كنا لخاطئين أي لمذنبين آثمين في أمرك .

التالي السابق


الخدمات العلمية