صفحة جزء
ولو كان ما في المصحف عبارة عن كلام الله ، وليس هو كلام الله ، لما حرم على الجنب والمحدث مسه ، ولو كان ما يقرؤه القارئ ليس كلام الله لما حرم على الجنب والمحدث قراءته .

بل كلام الله محفوظ في الصدور ، مقروء بالألسن ، مكتوب في المصاحف ، كما قال أبو حنيفة في الفقه الأكبر . وهو في هذه المواضع كلها حقيقة ، وإذا قيل : فيه خط فلان وكتابته : فهم منه معنى صحيح حقيقي ، وإذا قيل : فيه مداد قد كتب به : فهم منه معنى صحيح حقيقي ، وإذا قيل : المداد في المصحف : كانت الظرفية فيه غير الظرفية المفهومة من قول القائل : فيه السماوات والأرض ، وفيه محمد وعيسى ، ونحو ذلك . وهذان المعنيان مغايران لمعنى قول القائل : [ ص: 191 ] فيه خط فلان الكاتب ، وهذه المعاني الثلاثة مغايرة لمعنى قول القائل : فيه كلام الله . ومن لم يتنبه للفروق بين هذه المعاني ضل ولم يهتد للصواب . وكذلك الفرق بين القراءة التي هي فعل القارئ ، والمقروء الذي هو قول الباري ، من لم يهتد له فهو ضال أيضا ، ولو أن إنسانا وجد في ورقة مكتوبا

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

من خط كاتب معروف . لقال : هذا من كلام لبيد حقيقة ، وهذا خط فلان حقيقة ، وهذا كل شيء حقيقة ، وهذا خبر حقيقة ، ولا تشتبه هذه الحقيقة بالأخرى .

والقرآن في الأصل : مصدر ، فتارة يذكر ويراد به القراءة ، قال تعالى : وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ( الإسراء : 78 ) . [ ص: 192 ] وقال صلى الله عليه وسلم : زينوا القرآن بأصواتكم . وتارة يذكر ويراد به المقروء ، قال تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ( النحل : 98 ) . وقال تعالى : وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ( الأعراف : 204 ) . وقال صلى الله عليه وسلم : إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف . إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على [ ص: 193 ] كل من المعنيين المذكورين . فالحقائق لها وجود عيني وذهني ولفظي ورسمي ، ولكن الأعيان تعلم ، ثم تذكر ، ثم تكتب . فكتابتها في المصحف هي المرتبة الرابعة . وأما الكلام فإنه ليس بينه وبين المصحف واسطة ، بل هو الذي يكتب بلا واسطة ولا لسان .

والفرق بين كونه في زبر الأولين ، وبين كونه في رق منشور ، أو في كتاب مكنون : واضح .

فقوله عن القرآن : وإنه لفي زبر الأولين ( الشعراء : 196 ) ، أي ذكره ووصفه والإخبار عنه ، كما أن محمدا مكتوب عندهم . إذ القرآن أنزله الله على محمد ، لم ينزله على غيره أصلا ، ولهذا قال في الزبر ، ولم يقل في الصحف ، ولا في الرق ، لأن الزبر جمع زبور والزبر هو : الكتابة والجمع ، فقوله : وإنه لفي زبر الأولين ( الشعراء : 196 ) أي : مزبور الأولين ، ففي نفس اللفظ واشتقاقه ما يبين المعنى المراد ، ويبين كمال بيان القرآن وخلوصه من اللبس . وهذا مثل قوله : الذي يجدونه مكتوبا عندهم ( الأعراف : 156 ) ، أي : ذكره ، بخلاف قوله . في رق منشور ( الطور : 3 ) و لوح محفوظ ( البروج : 22 ) و كتاب مكنون ( الواقعة : 78 ) ، لأن العامل في الظرف إما أن يكون من الأفعال العامة ، مثل الكون والاستقرار والحصول ونحو ذلك ، أو يقدر : مكتوب في كتاب ، أو في رق . [ ص: 194 ] والكتاب : تارة يذكر ويراد به محل الكتابة ، وتارة يذكر ويراد به الكلام المكتوب . ويجب التفريق بين كتابة الكلام في الكتاب ، وكتابة الأعيان الموجودة في الخارج فيه - فإن تلك إنما يكتب ذكرها . وكلما تدبر الإنسان هذا المعنى وضح له الفرق .

وحقيقة كلام الله تعالى الخارجية : هي ما يسمع منه أو من المبلغ عنه ، فإذا سمعه السامع علمه وحفظه . فكلام الله مسموع له معلوم محفوظ ، فإذا قاله السامع فهو مقروء له متلو ، فإن كتبه فهو مكتوب له مرسوم . وهو حقيقة في هذه الوجوه كلها لا يصح نفيه . والمجاز يصح نفيه ، فلا يجوز أن يقال : ليس في المصحف كلام الله ، ولا : ما قرأ القارئ كلام الله ، وقد قال تعالى : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ( التوبة : 6 ) . وهو لا يسمع كلام الله من الله ، وإنما يسمعه من مبلغه عن الله . والآية تدل على فساد قول من قال : إن المسموع عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله ، فإنه تعالى قال : حتى يسمع كلام الله ( التوبة : 6 ) ، ولم يقل حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام الله . والأصل الحقيقة . ومن قال : إن المكتوب في المصاحف عبارة عن كلام الله ، أو حكاية كلام الله ، وليس فيها كلام الله : فقد خالف الكتاب والسنة وسلف الأمة ، وكفى بذلك ضلالا .

وكلام الطحاوي رحمه الله يرد قول من قال أنه معنى واحد [ ص: 195 ] لا يتصور سماعه منه ، وأن المسموع المنزل المقروء والمكتوب ليس كلام الله ، وإنما هو عبارة عنه . فإن الطحاوي رحمه الله يقول : كلام الله منه بدا . وكذلك قال غيره من السلف ، ويقولون : منه بدا ، وإليه يعود . وإنما قالوا : منه بدا ، لأن الجهمية من المعتزلة وغيرهم كانوا يقولون إنه خلق الكلام في محل ، فبدأ الكلام من ذلك المحل . فقال السلف : منه بدا أي هو المتكلم به ، فمنه بدا ، لا من بعض المخلوقات ، كما قال تعالى : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ( الزمر : 1 ) . ولكن حق القول مني ( السجدة : 13 ) . قل نزله روح القدس من ربك بالحق ( النحل : 102 ) . ومعنى قولهم : وإليه يعود - : يرفع من الصدور والمصاحف ، فلا يبقى في الصدور منه آية ولا في المصاحف . كما جاء ذلك في عدة آثار .

التالي السابق


الخدمات العلمية