صفحة جزء
وللناس في مسمى الكلام والقول عند الإطلاق : أربعة أقوال :

[ ص: 199 ] أحدها : أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعا ، كما يتناول لفظ الإنسان الروح والبدن معا ، وهذا قول السلف .

الثاني : اسم للفظ فقط ، والمعنى ليس جزء مسماه ، بل هو مدلول مسماه ، وهذا قول جماعة من المعتزلة وغيرهم .

الثالث : أنه اسم للمعنى فقط ، وإطلاقه على اللفظ مجاز ، لأنه دال عليه ، وهذا قول ابن كلاب ومن اتبعه .

الرابع : أنه مشترك بين اللفظ والمعنى ، وهذا قول بعض المتأخرين من الكلابية ، ولهم قول خامس ، يروى عن أبي الحسن ، أنه مجاز في كلام الله ، حقيقة في كلام الآدميين لأن حروف الآدميين تقوم بهم ، فلا يكون الكلام قائما بغير المتكلم ، بخلاف كلام الله ، فإنه لا يقوم عنده بالله ، فيمتنع أن يكون كلامه . وهذا مبسوط في موضعه . وأما من قال إنه معنى واحد ، واستدل عليه بقول الأخطل :


إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا

: فاستدلال فاسد . ولو استدل مستدل بحديث في الصحيحين لقالوا هذا خبر واحد ! ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول والعمل به ! فكيف وهذا البيت قد قيل إنه موضوع منسوب إلى الأخطل ، وليس هو في ديوانه ؟ ! وقيل إنما قال : إن البيان لفي الفؤاد وهذا أقرب إلى الصحة ، وعلى تقدير صحته عنه فلا يجوز الاستدلال [ ص: 200 ] به ، فإن النصارى قد ضلوا في معنى الكلام ، وزعموا أن عيسى عليه السلام نفس كلمة الله واتحد اللاهوت بالناسوت ! أي : شيء من الإله بشيء من الناس ! أفيستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام على معنى الكلام ، ويترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب ؟ ! وأيضا : فمعناه غير صحيح ، إذ لازمه أن الأخرس يسمى متكلما لقيام الكلام بقلبه وإن لم ينطق به ولم يسمع منه ، والكلام على ذلك مبسوط في موضعه ، وإنما أشير إليه إشارة .

وهنا معنى عجيب ، وهو : أن هذا القول له شبه قوي بقول النصارى القائلين باللاهوت والناسوت ! فإنهم يقولون : كلام الله هو المعنى القائم بذات الله الذي لا يمكن سماعه ، وأما النظم المسموع فمخلوق ، فإفهام المعنى القديم بالنظم المخلوق يشبه امتزاج اللاهوت بالناسوت الذي قالته النصارى في عيسى عليه السلام ، فانظر إلى هذا الشبه ما أعجبه !

ويرد قول من قال : بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس : قوله صلى الله عليه وسلم : إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس [ ص: 201 ] وقال : إن الله يحدث من أمره ما يشاء ، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة . واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامدا لغير مصلحتها بطلت صلاته . واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب ، لا يبطل الصلاة ، وإنما يبطلها التكلم بذلك . فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام .

وأيضا : ففي ( ( الصحيحين ) ) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ، ما لم تتكلم به أو تعمل به . فقد أخبر أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم ، ففرق بين حديث النفس وبين الكلام ، وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به ، والمراد : حتى ينطق به اللسان ، باتفاق العلماء . فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة ، لأن الشارع إنما خاطبنا بلغة العرب .

[ ص: 202 ] وأيضا ففي السنن : أن معاذا رضي الله عنه قال : يا رسول الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم . فبين أن الكلام إنما هو باللسان . فلفظ القول والكلام وما تصرف منهما ، من فعل ماض ومضارع وأمر واسم فاعل - : إنما يعرف في القرآن والسنة وسائر كلام العرب إذا كان لفظا ومعنى . ولم يكن في مسمى الكلام نزاع بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وإنما حصل النزاع بين المتأخرين من علماء أهل البدع ، ثم انتشر .

ولا ريب أن مسمى الكلام والقول ونحوهما - ليس هو مما يحتاج فيه إلى قول شاعر ، فإن هذا مما تكلم به الأولون والآخرون من أهل اللغة ، وعرفوا معناه ، كما عرفوا مسمى الرأس واليد والرجل ونحو ذلك .

ولا شك أن من قال : إن كلام الله معنى واحد قائم بنفسه تعالى وإن المتلو المحفوظ المكتوب المسموع من القارئ حكاية كلام الله وهو مخلوق ، فقد قال بخلق القرآن في المعنى وهو لا يشعر ، فإن [ ص: 203 ] الله تعالى يقول : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ( الإسراء : 88 ) . أفتراه سبحانه وتعالى يشير إلى ما في نفسه أو إلى المتلو المسموع ؟ ولا شك أن الإشارة إنما هي إلى هذا المتلو المسموع ، إذ ما في ذات الله غير مشار إليه ، ولا منزل ولا متلو ولا مسموع .

وقوله : لا يأتون بمثله أفتراه سبحانه يقول : لا يأتون بمثل ما في نفسي مما لم يسمعوه ولم يعرفوه ، وما في نفس الباري عز وجل لا حيلة إلى الوصول إليه ، ولا إلى الوقوف عليه .

فإن قالوا : إنما أشار إلى حكاية ما في نفسه وعبارته وهو المتلو المكتوب المسموع ، فأما أن يشير إلى ذاته فلا - فهذا صريح القول بأن القرآن مخلوق ، بل هم في ذلك أكفر من المعتزلة ، فإن حكاية الشيء بمثله وشبهه . وهذا تصريح بأن صفات الله محكية ، ولو كانت هذه التلاوة حكاية لكان الناس قد أتوا بمثل كلام الله ، فأين عجزهم ؟ ! ويكون التالي - في زعمهم - قد حكى بصوت وحرف ما ليس بصوت وحرف . وليس القرآن إلا سورا مسورة ، وآيات مسطرة ، في صحف مطهرة . قال تعالى : فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ( هود : 13 ) . بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ( العنكبوت : 49 ) . في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة ( عبس : 13 - 14 ) . ويكتب لمن قرأه بكل حرف عشر حسنات . قال صلى الله عليه وسلم : أما إني لا أقول ( الم ) حرف ، ولكن ألف حرف ، [ ص: 204 ] ولام حرف ، وميم حرف . وهو المحفوظ في صدور الحافظين المسموع من ألسن التالين . قال الشيخ حافظ الدين النسفي رحمه الله في ( ( المنار ) ) : إن القرآن اسم للنظم والمعنى . وكذا قال غيره من أهل الأصول . وما ينسب إلى أبي حنيفة رحمه الله : أن من قرأ في الصلاة بالفارسية أجزأه - فقد رجع عنه - وقال : لا يجوز القراءة مع القدرة بغير العربية . وقالوا : لو قرأ بغير العربية فإما أن يكون مجنونا فيداوى ، أو زنديقا فيقتل ، لأن الله تكلم به بهذه اللغة ، والإعجاز حصل بنظمه ومعناه .

التالي السابق


الخدمات العلمية