صفحة جزء
[ ص: 222 ] واتفقت الأمة على أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه ، ولم يتنازعوا في ذلك إلا في نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة : منهم من نفى رؤيته بالعين ، ومنهم من أثبتها له صلى الله عليه وسلم . وحكى القاضي عياض في كتابه " الشفا " اختلاف الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم في رؤيته صلى الله عليه وسلم ، وإنكار عائشة رضي الله عنها أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه ، وأنها قالت لمسروق حين سألها : هل رأى محمد ربه ؟ فقالت : لقد قف شعري مما قلت ، ثم قالت : من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب . ثم قال : وقال [ ص: 223 ] جماعة بقول عائشة رضي الله عنها ، وهو المشهور عن ابن مسعود وأبي هريرة واختلف عنه ، وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته في الدنيا جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه ، وروى عطاء عنه : أنه رآه بقلبه . ثم ذكر أقوالا وفوائد ، ثم قال :

وأما وجوبه لنبينا صلى الله عليه وسلم والقول بأنه رآه بعينه فليس فيه قاطع ولا نص ، والمعول فيه على آية النجم ، والتنازع فيها مأثور ، والاحتمال لها ممكن ، [ ص: 224 ] وهذا القول الذي قاله القاضي عياض رحمه الله هو الحق ، فإن الرؤية في الدنيا ممكنة ، إذ لو لم تكن ممكنة ، لما سألها موسى عليه السلام ، لكن لم يرد نص بأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه ، بل ورد ما يدل على نفي الرؤية ، وهو ما رواه مسلم في ( ( صحيحه ) ) ، عن أبي ذر رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك ؟ فقال : نور أنى أراه . وفي رواية : رأيت نورا . وقد روى مسلم أيضا عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات ، فقال : ( ( إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور ، ( وفي رواية : النار ) ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه . فيكون - والله أعلم - معنى قوله لأبي ذر رأيت نورا : أنه رأى الحجاب ، ومعنى قوله " نور أنى أراه " : النور الذي هو الحجاب يمنع من رؤيته ، فأنى أراه ؟ أي فكيف أراه والنور حجاب بيني وبينه يمنعني من رؤيته ؟ فهذا صريح في نفي الرؤية . والله أعلم .

وحكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على ذلك ، [ ص: 225 ] ونحن إلى تقرير رؤيته لجبريل أحوج منا إلى تقرير رؤيته لربه تعالى ، وإن كانت رؤية الرب تعالى أعظم وأعلى ، فإن النبوة لا يتوقف ثبوتها عليها ألبتة .

وقوله : ( ( بغير إحاطة ولا كيفية ) ) هذا لكمال عظمته وبهائه - سبحانه وتعالى ، لا تدركه الأبصار ولا تحيط به ، كما يعلم ولا يحاط به علما . قال تعالى : لا تدركه الأبصار ( الأنعام : 103 ) . وقال تعالى : ولا يحيطون به علما ( طه : 110 ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية