صفحة جزء
[ ص: 249 ] قوله : ( ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم ، أو تأولها بفهم ، إذ كان تأويل الرؤية - وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية - ترك التأويل ، ولزوم التسليم ، وعليه دين المسلمين ، ومن لم يتوق النفي والتشبيه ، زل ولم يصب التنزيه ) .

ش : يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على المعتزلة ومن يقول بقولهم في نفي الرؤية ، وعلى من يشبه الله بشيء من مخلوقاته . فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ، الحديث : أدخل ( ( كاف ) ) التشبيه على ( ( ما ) ) المصدرية أو الموصولة بـ " ترون " التي تنحل مع صلتها إلى المصدر الذي هو الرؤية ، فيكون التشبيه في الرؤية لا في المرئي . وهذا بين واضح في أن المراد إثبات الرؤية وتحقيقها ، ودفع الاحتمالات عنها . وماذا بعد هذا البيان وهذا الإيضاح ؟ ! فإذا سلط التأويل على مثل هذا النص ، كيف يستدل بنص من النصوص ؟ ! وهل يحتمل هذا النص أن يكون معناه : إنكم تعلمون ربكم كما تعلمون القمر ليلة البدر ؟ ! ويستشهد لهذا التأويل الفاسد بقوله تعالى : ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ( الفيل : 1 ) . ونحو ذلك مما استعمل فيه ( ( رأى ) ) التي من أفعال القلوب ! ! ولا شك أن رأى تارة تكون بصرية ، وتارة تكون قلبية ، وتارة تكون من رؤيا الحلم ، وغير ذلك ، ولكن ما يخلو الكلام من قرينة تخلص أحد معانيه من الباقي . وإلا لو أخلى المتكلم كلامه من القرينة المخلصة لأحد المعاني لكان [ ص: 250 ] مجملا ملغزا ، لا مبينا موضحا . وأي بيان وقرينة فوق قوله : ترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب ؟ فهل مثل هذا مما يتعلق برؤية البصر ، أو برؤية القلب ؟ وهل يخفى مثل هذا إلا على من أعمى الله قلبه ؟ فإن قالوا : ألجأنا إلى هذا التأويل ، حكم العقل بأن رؤيته تعالى محال لا يتصور إمكانها ! فالجواب : أن هذه دعوى منكم ، خالفكم فيها أكثر العقلاء ، وليس في العقل ما يحيلها ، بل لو عرض على العقل موجود قائم بنفسه لا يمكن رؤيته لحكم بأن هذا محال .

وقوله : ( ( لمن اعتبرها منهم بوهم ) ) ، أي توهم أن الله تعالى يرى على صفة كذا ، فيتوهم تشبيها ، ثم بعد هذا التوهم - إن أثبت ما توهمه من الوصف - فهو مشبه ، وإن نفى الرؤية من أصلها لأجل ذلك التوهم - فهو جاحد معطل . بل الواجب دفع ذلك الوهم وحده ، ولا يعم بنفيه الحق والباطل ، فينفيهما ردا على من أثبت الباطل ، بل الواجب رد الباطل وإثبات الحق .

وإلى هذا المعنى أشار الشيخ رحمه الله بقوله : ومن لم يتوق النفي والتشبيه ، زل ولم يصب التنزيه فإن هؤلاء المعتزلة يزعمون أنهم ينزهون الله بهذا النفي ! وهل يكون التنزيه بنفي صفة الكمال ؟ فإن نفي الرؤية ليس بصفة كمال ، إذ المعدوم لا يرى ، وإنما الكمال في إثبات الرؤية ونفي إدراك الرائي له إدراك إحاطة ، كما في [ ص: 251 ] العلم ، فإن نفي العلم به ليس بكمال ، وإنما الكمال في إثبات العلم ونفي الإحاطة به علما . فهو سبحانه لا يحاط به رؤية ، كما لا يحاط به علما .

التالي السابق


الخدمات العلمية