والتأويل في كلام المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين     : هو صرف      
[ ص: 256 ] اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدلالة توجب ذلك . وهذا هو التأويل الذي يتنازع الناس فيه في كثير من الأمور الخبرية والطلبية . فالتأويل الصحيح منه : الذي يوافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة ، وما خالف ذلك فهو التأويل الفاسد ، وهذا مبسوط في موضعه . وذكر في ( ( التبصرة ) ) أن  
نصير بن يحيى البلخي  روى  عن  
عمر بن إسماعيل بن حماد بن أبي يحيى بن محمد بن الحسن  رحمهم الله : أنه سئل عن الآيات والأخبار التي فيها من صفات الله تعالى ما يؤدي ظاهره إلى التشبيه ؟ فقال : نمرها كما جاءت ، ونؤمن بها ، ولا نقول : كيف وكيف     . ويجب أن يعلم أن المعنى الفاسد الكفري ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه ، وأن من فهم ذلك منه فهو لقصور فهمه ونقص علمه ، وإذا كان قد قيل في قول بعض الناس :  
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم وقيل :  
علي نحت القوافي من أماكنها  وما علي إذا لم تفهم البقر  
، فكيف يقال في قول الله ، الذي هو أصدق الكلام وأحسن      
[ ص: 257 ] الحديث ، وهو الكتاب الذي  
أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير     ( هود : 1 ) . إن حقيقة قولهم إن ظاهر القرآن والحديث هو الكفر والضلال ، وإنه ليس فيه بيان لما يصلح من الاعتقاد ، ولا فيه بيان التوحيد والتنزيه ؟ ! هذا حقيقة قول المتأولين .  
والحق أن  
ما دل عليه القرآن فهو حق  ، وما كان باطلا لم يدل عليه . والمنازعون يدعون دلالته على الباطل الذي يتعين صرفه !  
فيقال لهم : هذا الباب الذي فتحتموه ، وإن كنتم تزعمون أنكم تنتصرون به على إخوانكم المؤمنين في مواضع قليلة حقيقة ، فقد فتحتم عليكم بابا لأنواع المشركين والمبتدعين ، لا تقدرون على سده ، فإنكم إذا سوغتم صرف القرآن عن دلالته المفهومة بغير دليل شرعي ، فما الضابط فيما يسوغ تأويله وما لا يسوغ ؟ فإن قلتم : ما دل القاطع العقلي على استحالته تأولناه ، وإلا أقررناه ! قيل لكم : وبأي عقل نزن القاطع العقلي ؟ فإن القرمطي الباطني يزعم قيام القواطع على بطلان ظواهر الشرع ! ويزعم الفيلسوف قيام القواطع على بطلان حشر الأجساد ! ويزعم المعتزلي  
قيام القواطع على امتناع رؤية الله تعالى  ، وعلى امتناع قيام علم أو كلام أو رحمة به تعالى ! ! وباب التأويلات التي يدعي أصحابها وجوبها بالمعقولات أعظم من أن تنحصر في هذا المقام .  
ويلزم حينئذ محذوران عظيمان :  
أحدهما : أن لا نقر بشيء من معاني الكتاب والسنة حتى نبحث      
[ ص: 258 ] قبل ذلك بحوثا طويلة عريضة في إمكان ذلك بالعقل ! وكل طائفة من المختلفين في الكتاب يدعون أن العقل يدل على ما ذهبوا إليه ، فيؤول الأمر إلى الحيرة .  
المحذور الثاني : أن القلوب تنحل عن الجزم بشيء تعتقده مما أخبر به الرسول . إذ لا يوثق بأن الظاهر هو المراد ، والتأويلات مضطربة ، فيلزم عزل الكتاب والسنة عن الدلالة والإرشاد إلى ما أنبأ الله به العباد ، وخاصة النبي هي الإنباء ، والقرآن هو النبأ العظيم . ولهذا نجد أهل التأويل إنما يذكرون نصوص الكتاب والسنة للاعتضاد لا للاعتماد ، إن وافقت ما ادعوا أن العقل دل عليه ، وإن خالفته أولوه ! وهذا فتح باب الزندقة ، نسأل الله العافية .