صفحة جزء
ولا شك أن الإقرار بالربوبية أمر فطري ، والشرك حادث طارئ ، والأبناء تقلدوه عن الآباء ، فإذا احتجوا يوم القيامة بأن الآباء أشركوا ونحن جرينا على عادتهم كما يجري الناس على عادة آبائهم في المطاعم [ ص: 315 ] والملابس والمساكن ، يقال لهم : أنتم كنتم معترفين بالصانع ، مقرين بأن الله ربكم لا شريك له ، وقد شهدتم بذلك على أنفسكم ، فإن شهادة المرء على نفسه هي إقراره بالشيء ليس إلا ، قال الله تعالى : ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم ( النساء : 135 ) . وليس المراد أن يقول : أشهد على نفسي بكذا ، بل من أقر بشيء فقد شهد على نفسه به ، فلم عدلتم عن هذه المعرفة والإقرار الذي شهدتم به على أنفسكم إلى الشرك ؟ بل عدلتم عن المعلوم المتيقن إلى ما لا يعلم له حقيقة ، تقليدا لمن لا حجة معه ، بخلاف اتباعهم في العادات الدنيوية ، فإن تلك لم يكن عندكم ما يعلم به فسادها ، وفيه مصلحة لكم ، بخلاف الشرك ، فإنه كان عندكم من المعرفة والشهادة على أنفسكم ما يبين فساده وعدولكم فيه عن الصواب .

فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو : دين التربية والعادة ، وهو لأجل مصلحة الدنيا ، فإن الطفل لا بد له من كافل ، وأحق الناس به أبواه ، ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع أبويه على دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة ، وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه - على الصحيح - حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة ، وحينئذ فعليه أن يتبع دين العلم والعقل ، وهو الذي يعلم بعقله هو أنه دين صحيح ، فإن كان آباؤه مهتدين ، كيوسف الصديق مع آبائه ، قال : واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ( يوسف : 38 ) ، وقال ليعقوب بنوه : نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ( البقرة : 133 ) ، وإن كان الآباء مخالفين الرسل ، كان عليه أن يتبع الرسل ، كما قال تعالى : ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما الآية ( العنكبوت : 8 ) .

[ ص: 316 ] فمن اتبع دين آبائه بغير بصيرة وعلم ، بل يعدل عن الحق المعلوم إليه ، فهذا اتبع هواه ، كما قال تعالى : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ( البقرة : 170 ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية