فإن أردت مزيد إيضاح لذلك ، فاعلم أن  
أسباب الخير  ثلاثة : الإيجاد ، والإعداد ، والإمداد . فإيجاد هذا خير ، وهو إلى الله ، وكذلك إعداده وإمداده ، فإن لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل ، وإنما إليه ضده .  
فإن قيل : هلا أمده إذا أوجده ؟ قيل : ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده ، وإنما اقتضت إيجاده وترك إمداده . فإيجاده خير ، والشر وقع من عدم إمداده .  
فإن قيل : فهلا أمد الموجودات كلها ؟ فهذا سؤال فاسد ، يظن مورده أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة ! وهذا عين الجهل !      
[ ص: 333 ] بل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الذي بين الأشياء ، وليس في خلق كل نوع منها تفاوت ، فكل نوع منها ليس في خلقه تفاوت ، والتفاوت إنما وقع لأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق ، وإلا فليس في الخلق من تفاوت . فإن اعتاص عليك هذا ، ولم تفهمه حق الفهم ، فراجع قول القائل :  
إذا لم تستطع شيئا فدعه  وجاوزه إلى ما تستطيع ،  
فإن قيل :  
كيف يرضى لعبده شيئا ولا يعينه عليه ؟  قيل : لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له ، وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة . وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله :  
ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم     ( التوبة : 46 - 47 ) . الآيتين . فأخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم إلى الغزو مع رسوله ، وهو طاعة ، فلما كرهه منهم ثبطهم عنه ، ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد التي تترتب على خروجهم مع رسوله ، فقال :  
لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا  ، أي فسادا وشرا ،  
ولأوضعوا خلالكم  ، أي سعوا بينكم بالفساد والشر ،  
يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم     ( التوبة : 47 ) ، أي قابلون منهم مستجيبون لهم ،      
[ ص: 334 ] فيتولد من سعي هؤلاء وقبول هؤلاء من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم ، فاقتضت الحكمة والرحمة أن أقعدهم عنه . فاجعل هذا المثال أصلا ، وقس عليه .  
وأما الوجه الثاني ، وهو الذي من جهة العبد : فهو أيضا ممكن ، بل واقع . فإن العبد يسخط الفسوق والمعاصي ويكرهها ، من حيث هي فعل العبد ، واقعة بكسبه وإرادته واختياره ، ويرضى بعلم الله وكتابه ومشيئته وإرادته وأمره الكوني ، فيرضى بما من الله ويسخط ما هو منه . فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان . وطائفة أخرى كرهتها مطلقا ، وقولهم يرجع إلى هذا القول ، لأن إطلاقهم الكراهة لا يريدون به شموله لعلم الرب وكتابته ومشيئته . وسر المسألة : أن الذي إلى الرب منها غير مكروه ، والذي إلى العبد مكروه .  
فإن قيل : ليس إلى العبد شيء منها . قيل : هذا هو  
الجبر الباطل  الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المقام الضيق ، والقدري المنكر أقرب إلى التخلص منه من الجبري . وأهل السنة المتوسطون بين  
القدرية   والجبرية   أسعد بالتخلص من الفريقين .  
فإن قيل :  
كيف يتأتى الندم والتوبة مع شهود الحكمة في التقدير ، ومع شهود القيومية والمشيئة النافذة ؟  قيل : هذا هو الذي أوقع من عميت بصيرته في شهود الأمر على خلاف ما هو عليه ، فرأى تلك الأفعال      
[ ص: 335 ] طاعات ، لموافقته فيها المشيئة والقدر ، وقال : إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته ! وفي ذلك قيل :  
أصبحت منفعلا لما تختاره      مني ، ففعلي كله طاعات !  
وهؤلاء أعمى الخلق بصائر ، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية ، فإن الطاعة هي موافقة الأمر الديني الشرعي ، لا موافقة القدر والمشيئة ، ولو كان موافقة القدر طاعة لكان إبليس من أعظم المطيعين له ، ولكان قوم  
نوح   وهود   وصالح   ولوط   وشعيب   وقوم  
فرعون     - كلهم مطيعين ! وهذا غاية الجهل ، لكن إذا شهد العبد عجز نفسه ، ونفوذ الأقدار فيه ، وكمال فقره إلى ربه ، وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين ، كان بالله في هذه الحال لا بنفسه ، فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال ألبتة ، فإن عليه حصنا حصينا من ، فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي ، فلا يتصور منه الذنب في هذه الحال ، فإذا حجب عن هذا المشهد وبقي بنفسه ، استولى عليه حكم النفس ، فهنالك نصبت عليه الشباك والأشراك ، وأرسلت عليه الصيادون ، فإذا انقشع عنه ضباب ذلك الوجود الطبعي ، فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة ، فإنه كان في المعصية محجوبا بنفسه عن ربه ، فلما فارق ذلك الوجود صار في وجود آخر ، فبقي بربه لا بنفسه .