صفحة جزء
وكلام السلف في إثبات صفة العلو كثير جدا : فمنه : ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه " الفاروق " ، بسنده إلى [ ص: 387 ] أبي مطيع البلخي : أنه سأل أبا حنيفة عمن قال : لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض ؟ فقال : قد كفر ، لأن الله يقول : الرحمن على العرش استوى [ طه : 5 ] وعرشه فوق سبع سماوات ، قلت : فإن قال : إنه على العرش ، ولكن يقول : لا أدري آلعرش في السماء أم في الأرض ؟ قال : هو كافر ، لأنه أنكر أنه في السماء ، فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر . وزاد غيره : لأن الله في أعلى عليين ، وهو يدعى من أعلى ، لا من أسفل . انتهى .

ولا يلتفت إلى من أنكر ذلك ممن ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة ، فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم ، مخالفون له في كثير من اعتقاداته . وقد ينتسب إلى مالك والشافعي وأحمد من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم . وقصة أبي يوسف في استتابتة لبشر المريسي ، لما أنكر أن يكون الله عز وجل فوق العرش - : مشهورة . رواها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره .

ومن تأول " فوق " ، بأنه خير من عباده وأفضل منهم ، وأنه خير من العرش وأفضل منه ، كما يقال : الأمير فوق الوزير ، والدينار فوق الدرهم - : فذلك مما تنفر عنه العقول السليمة ، وتشمئز منه القلوب الصحيحة ! فإن قول القائل ابتداء : الله خير من عباده ، وخير من عرشه : من جنس قوله : الثلج بارد ، والنار حارة ، والشمس أضوأ من السراج ، والسماء أعلى من سقف الدار ، والجبل أثقل من الحصى ، ورسول الله أفضل من فلان اليهودي ، والسماء فوق الأرض ! ! وليس في ذلك تمجيد ولا تعظيم ولا مدح ، بل هو من أرذل الكلام وأسمجه وأهجنه ! فكيف يليق بكلام الله ، الذي لو اجتمع الإنس [ ص: 388 ] والجن على أن يأتوا بمثله لما أتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ؟ ! بل في ذلك تنقص ، كما قيل في المثل السائر : ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا ولو قال قائل : الجوهر فوق قشر البصل وقشر السمك ! لضحك منه العقلاء ، للتفاوت الذي بينهما ، فإن التفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم . بخلاف ما إذا كان المقام يقتضي ذلك ، بأن كان احتجاجا على مبطل ، كما في قول يوسف الصديق عليه السلام : أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار [ يوسف : 39 ] . وقوله تعالى : آلله خير أما يشركون [ النمل : 59 ] . والله خير وأبقى [ طه : 73 ] .

وإنما يثبت هذا المعنى من الفوقية في ضمن ثبوت الفوقية المطلقة من كل وجه ، فله سبحانه وتعالى فوقية القهر ، وفوقية القدر ، وفوقية الذات . ومن أثبت البعض ونفى البعض فقد تنقص .

وعلوه تعالى مطلق من كل الوجوه . فإن قالوا ، بل علو المكانة لا المكان ؟ فالمكانة : تأنيث المكان ، والمنزلة : تأنيث المنزل ، فلفظ المكانة والمنزلة تستعمل في المكانات النفسانية والروحانية ، كما يستعمل لفظ المكان والمنزل في الأمكنة الجسمانية ، فإذا قيل : لك في قلوبنا منزلة ، ومنزلة فلان في قلوبنا وفي نفوسنا أعظم من منزلة [ ص: 389 ] فلان ، كما جاء في الأثر : إذا أحب أحدكم أن يعرف كيف منزلته عند الله ، فلينظر كيف منزلة الله في قلبه ، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه . فقوله : منزلة الله في قلبه : هو ما يكون في قلبه من معرفة الله ومحبته وتعظيمه وغير ذلك ، فإذا عرف أن المكانة والمنزلة : تأنيث المكان والمنزل ، والمؤنث فرع على المذكر في اللفظ والمعنى ، وتابع له ، فعلو المثل الذي يكون في الذهن يتبع علو الحقيقة ، إذا كان مطابقا كان حقا ، وإلا كان باطلا .

فإن قيل : المراد علوه في القلوب ، وأنه أعلى في القلوب من كل شيء . قيل : وكذلك هو ، وهذا العلو مطابق لعلوه في نفسه على كل شيء ، فإن لم يكن عاليا بنفسه على كل شيء ، كان علوه في القلوب غير مطابق ، كمن جعل ما ليس بأعلى أعلى .

التالي السابق


الخدمات العلمية