صفحة جزء
ويتلخص من أدلتها : أن الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت .

فمنها : أرواح في أعلى عليين ، في الملأ الأعلى ، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ، وهم متفاوتون في منازلهم .

[ ص: 585 ] ومنها أرواح في حواصل طير خضر ، تسرح في الجنة حيث شاءت ، وهي أرواح بعض الشهداء ، لا كلهم ، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه . كما في المسند عن عبد الله بن جحش : أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله : ما لي إن قتلت في سبيل الله ؟ قال : الجنة ، فلما ولى ، قال : إلا الدين ، سارني به جبريل آنفا .

ومن الأرواح من يكون محبوسا على باب الجنة ، كما في الحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : رأيت صاحبكم محبوسا على باب الجنة

[ ص: 586 ] ومنهم من يكون محبوسا في قبره ، ومنهم من يكون في الأرض ، ومنها أرواح في تنور الزناة والزواني ، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة ، كل ذلك تشهد له السنة ، والله أعلم .

وأما الحياة التي اختص بها الشهيد وامتاز بها عن غيره ، في قوله تعالى : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون [ آل عمران : 169 ] وقوله تعالى : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون [ البقرة : 154 ] - [ فهي ] : أن الله تعالى جعل أرواحهم في أجواف طير خضر . كما في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما أصيب إخوانكم - يعني يوم أحد - جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب مذللة في ظل العرش الحديث ، رواه الإمام أحمد وأبو داود ، وبمعناه في حديث ابن مسعود ، رواه مسلم .

[ ص: 587 ] فإنهم لما بذلوا أبدانهم لله عز وجل حتى أتلفها أعداؤه فيه ، أعاضهم منها في البرزخ أبدانا خيرا منها ، تكون فيها إلى يوم القيامة ، ويكون تنعمها بواسطة تلك الأبدان ، أكمل من تنعم الأرواح المجردة عنها .

ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير ، أو كطير ، ونسمة الشهيد في جوف طير . وتأمل لفظ الحديثين ، ففي الموطأ أن كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة ، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه .

فقوله نسمة المؤمن تعم الشهيد وغيره ، ثم خص الشهيد بأن قال : هي في جوف طير خضر ، ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها طير ، فتدخل في عموم الحديث الآخر بهذا الاعتبار ، [ ص: 588 ] فنصيبهم من النعيم في البرزخ أكمل من نصيب غيرهم من الأموات على فرشهم ، وإن كان الميت أعلى درجة من كثير منهم ، فله نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه ، والله أعلم .

وحرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ، كما روي في السنن . وأما الشهداء فقد شوهد منهم بعد مدد من دفنه كما هو لم يتغير ، فيحتمل بقاؤه كذلك في تربته إلى يوم محشره ، ويحتمل أنه يبلى مع طول المدة ، والله أعلم . وكأنه - والله أعلم - كلما كانت الشهادة أكمل ، والشهيد أفضل ، كان بقاء جسده أطول .

التالي السابق


الخدمات العلمية