صفحة جزء
قوله : ( والاستطاعة التي يجب بها الفعل ، من نحو التوفيق الذي لا يوصف المخلوق به - [ تكون ] مع الفعل . وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع ، والتمكين وسلامة الآلات - فهي قبل الفعل ، وبها يتعلق الخطاب ، وهو كما قال تعالى " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] .

ش : الاستطاعة والطاقة والقدرة والوسع ، ألفاظ متقاربة . وتنقسم الاستطاعة إلى قسمين ، كما ذكره الشيخ رحمه الله ، وهو قول عامة أهل السنة ، وهو الوسط . وقالت القدرية والمعتزلة : لا تكون القدرة إلا قبل الفعل . وقابلهم طائفة من أهل السنة [ فقالوا لا تكون إلا مع الفعل .

والذي قاله عامة أهل السنة : أن للعبد قدرة هي مناط الأمر والنهي ، وهذه قد تكون قبله ، لا يجب أن تكون معه ، والقدرة التي بها الفعل لا بد أن تكون مع الفعل ، لا يجوز أن يوجد الفعل بقدرة معدومة .

وأما القدرة التي من جهة الصحة والوسع ، والتمكن وسلامة الآلات - فقد تتقدم الأفعال . وهذه القدرة المذكورة في قوله تعالى : [ ص: 634 ] ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ آل عمران : 97 ] . فأوجب الحج على المستطيع ، فلو لم يستطع إلا من حج لم يكن الحج قد وجب إلا على من حج ، ولم يعاقب أحد على ترك الحج ! وهذا خلاف المعلوم بالضرورة من دين الإسلام .

وكذلك قوله تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم [ التغابن : 16 ] . فأوجب التقوى بحسب الاستطاعة ، فلو كان من لم يتق الله لم يستطع التقوى ، لم يكن قد أوجب التقوى إلا على من اتقى ، ولم يعاقب من لم يتق ! وهذا معلوم الفساد .

وكذا قوله تعالى : فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا [ المجادلة : 4 ] . والمراد منه استطاعة الأسباب والآلات .

وكذا ما حكاه سبحانه من قول المنافقين : لو استطعنا لخرجنا معكم [ التوبة : 43 ] . وكذبهم في ذلك القول ، ولو كانوا أرادوا الاستطاعة التي هي حقيقة قدرة الفعل - ما كانوا بنفيهم عن أنفسهم كاذبين ، وحيث كذبهم دل أنهم أرادوا بذلك المرض أو فقد المال ، على ما بين تعالى بقوله : ليس على الضعفاء ولا على المرضى [ التوبة : 91 ] إلى أن قال : إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء [ التوبة : 93 ] . وكذلك قوله تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات [ النساء : 25 ] . والمراد : استطاعة [ ص: 635 ] الآلات والأسباب . ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين : صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب . وإنما نفى استطاعة الفعل معها .

وأما دليل ثبوت الاستطاعة التي هي حقيقة القدرة ، فقد ذكروا فيها قوله تعالى : ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون [ هود : 20 ] . والمراد نفي حقيقة القدرة ، لا نفي الأسباب والآلات ، لأنها كانت ثابتة . وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قوله : ولا يطيقون إلا ما كلفهم ، إن شاء الله تعالى . وكذا قول صاحب موسى : إنك لن تستطيع معي صبرا [ الكهف : 67 ] . وقوله : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا [ الكهف : 72 ] . والمراد منه حقيقة قدرة الصبر ، لا أسباب الصبر وآلاته ، فإن تلك كانت ثابتة له ، ألا ترى أنه عاتبه على ذلك ؟ ولا يلام من عدم آلات الفعل وأسبابه على عدم الفعل ، وإنما يلام من امتنع منه الفعل لتضييعه قدرة الفعل ، لاشتغاله بغير ما أمر به ، أو شغله إياها بضد ما أمر به . ومن قال : إن القدرة لا تكون إلا حين الفعل - يقولون : إن القدرة لا تصلح للضدين ، فإن القدرة المقارنة للفعل لا تصلح إلا لذلك الفعل ، وهي مستلزمة له ، لا توجد بدونه .

[ ص: 636 ] وما قالته القدرية - بناء على أصلهم الفاسد ، وهو إقدار الله للمؤمن والكافر والبر والفاجر سواء ، فلا يقولون إن الله خص المؤمن المطيع بإعانة حصل بها الإيمان ، بل هذا بنفسه رجح الطاعة ، وهذا بنفسه رجح المعصية ! كالوالد الذي أعطى كل واحد من بنيه سيفا ، فهذا جاهد به في سبيل الله ، وهذا قطع به الطريق .

وهذا القول فاسد باتفاق أهل السنة والجماعة المثبتين للقدر ، فإنهم متفقون على أن لله على عبده المطيع نعمة دينية ، خصه بها دون الكافر ، وأنه أعانه على الطاعة إعانة لم يعن بها الكافر . كما قال تعالى : ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون [ الحجرات : 7 ] فالقدرية يقولون : إن هذا التحبيب والتزيين عام في كل الخلق ، وهو بمعنى البيان وإظهار دلائل الحق . والآية تقتضي أن هذا خاص بالمؤمن ، ولهذا قال : أولئك هم الراشدون [ الحجرات : 7 ] . والكفار ليسوا راشدين . وقال تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون [ الأنعام : 125 ] . وأمثال هذه الآية في القرآن كثير ، يبين أنه سبحانه هدى هذا وأضل هذا . قال تعالى : من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا [ الكهف : 17 ] . وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان ، إن شاء الله تعالى .

وأيضا فقول القائل : يرجح بلا مرجح - إن كان لقوله : " يرجح " [ ص: 637 ] معنى زائد على الفعل ، فذاك هو السبب المرجح ، وإن لم يكن له معنى زائد كان حال الفاعل قبل وجود الفعل كحاله عند الفعل ، ثم الفعل حصل في إحدى الحالتين دون الأخرى بلا مرجح ! وهذا مكابرة للعقل ! ! فلما كان أصل قول القدرية إن فاعل الطاعات وتاركها كلاهما في الإعانة والإقدار سواء - امتنع على أصلهم أن يكون مع الفعل قدرة تخصه ، لأن القدرة التي تخص الفعل لا تكون للتارك ، وإنما تكون للفاعل ، ولا تكون القدرة إلا من الله تعالى . وهم لما رأوا أن القدرة لا بد أن تكون قبل الفعل ، قالوا : لا تكون مع الفعل ، لأن القدرة هي التي يكون بها الفعل والترك ، وحال وجود الفعل يمتنع الترك ، فلهذا قالوا : القدرة لا تكون إلا قبل الفعل ! وهذا باطل مطلقا ، فإن وجود الأمر مع عدم بعض شروطه الوجودية ممتنع ، بل لا بد أن يكون جميع ما يتوقف عليه الفعل من الأمور الوجودية موجودا عند الفعل . فنقيض قولهم حق ، وهو : أن الفعل لا بد أن يكون معه قدرة .

لكن صار أهل الإثبات هنا حزبين : حزب قالوا : لا تكون القدرة إلا معه ، ظنا منهم أن القدرة نوع واحد لا يصلح للضدين ، وظنا من بعضهم أن القدرة عرض ، فلا تبقى زمانين ، فيمتنع وجودها قبل الفعل .

والصواب : أن القدرة نوعان كما تقدم : نوع مصحح للفعل ، يمكن معه الفعل والترك ، وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي ، وهذه تحصل للمطيع والعاصي ، وتكون قبل الفعل ، وهذه تبقى إلى حين الفعل ، إما بنفسها عند من يقول ببقاء الأعراض ، وإما بتجدد أمثالها عند [ ص: 638 ] من يقول إن الأعراض لا تبقى زمانين ، وهذه قد تصلح للضدين ، وأمر الله مشروط بهذه الطاقة ، فلا يكلف الله من ليس معه هذه الطاقة ، وضد هذه العجز ، كما تقدم .

وأيضا : فالاستطاعة المشروطة في الشرع أخص من الاستطاعة التي يمتنع الفعل مع عدمها ، فإن الاستطاعة الشرعية قد تكون ما يتصور الفعل مع عدمها وإن لم يعجز عنه . فالشارع ييسر على عباده ، ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر ، وما جعل عليكم في الدين من حرج ، والمريض قد يستطيع القيام مع زيادة المرض وتأخر برئه ، فهذا في الشرع غير مستطيع ، لأجل حصول الضرر عليه ، وإن كان قد يسمى مستطيعا . فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل ، بل ينظر إلى لوازم ذلك ، فإن كان الفعل ممكنا مع المفسدة الراجحة لم تكن هذه استطاعة شرعية ، كالذي يقدر على الحج مع ضرر يلحقه في بدنه أو ماله ، أو يصلي قائما مع زيادة مرضه ، أو يصوم الشهرين مع انقطاعه عن معيشته ، ونحو ذلك . فإذا كان الشارع قد اعتبر في المكنة عدم المفسدة الراجحة ، فكيف يكلف مع العجز ؟ !

ولكن هذه الاستطاعة - مع بقائها إلى حين الفعل لا تكفي في وجود الفعل ، ولو كانت كافية لكان التارك كالفاعل ، بل لا بد من إحداث إعانة أخرى تقارن ، مثل جعل الفاعل مريدا ، فإن الفعل لا يتم إلا بقدرة وإرادة ، والاستطاعة المقارنة تدخل فيها الإرادة الجازمة ، بخلاف المشروطة في التكليف ، فإنه لا يشترط فيها الإرادة . فالله تعالى [ ص: 639 ] يأمر بالفعل من لا يريده ، لكن لا يأمر به من لو أراده لعجز عنه . وهكذا أمر الناس بعضهم لبعض ، فالإنسان يأمر عبده بما لا يريده العبد ، لكن لا يأمره بما يعجز عنه العبد ، وإذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقوة التامة ، لزم وجود الفعل . وعلى هذا ينبني تكليف ما لا يطاق ، فإن من قال : القدرة لا تكون إلا مع الفعل - يقول : كل كافر وفاسق قد كلف ما لا يطيق . وما لا يطاق يفسر بشيئين : بما لا يطاق للعجز عنه ، فهذا لم يكلفه الله أحدا ، ويفسر بما لا يطاق للاشتغال بضده ، فهذا هو الذي وقع فيه التكليف ، كما في أمر العباد بعضهم بعضا ، فإنهم يفرقون بين هذا وهذا ، فلا يأمر السيد عبده الأعمى بنقط المصاحف ! ويأمره إذا كان قاعدا أن يقوم ، ويعلم الفرق بين الأمرين بالضرورة .

التالي السابق


الخدمات العلمية