صفحة جزء
وأما ما يخبر به الرسول من الأمور الغائبة ، فقد يكون مما أدركوا [ ص: 67 ] نظيره بحسهم وعقلهم ، كإخبارهم بأن الريح قد أهلكت عادا ، فإن عادا من جنسهم والريح من جنس ريحهم ، وإن كانت أشد . وكذلك غرق فرعون في البحر ، وكذا بقية الأخبار عن الأمم الماضية . ولهذا كان الإخبار بذلك فيه عبرة لنا ، كما قال تعالى : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ( يوسف : 111 ) . وقد يكون الذي يخبر به الرسول ما لم يدركوا مثله الموافق له في الحقيقة من كل وجه لكن في مفرداته ما يشبه مفرداتهم من بعض الوجوه . كما إذا أخبرهم عن الأمور الغيبية المتعلقة بالله واليوم الآخر ، فلا بد أن يعلموا معنى مشتركا وشبها بين مفردات تلك الألفاظ وبين مفردات ما علموه في الدنيا بحسهم وعقلهم . فإذا كان ذلك المعنى الذي في الدنيا لم يشهدوه بعد ، ويريد أن يجعلهم يشهدونه مشاهدة كامله ليفهموا به القدر المشترك بينه وبين المعنى الغائب ، أشهدهم إياه ، وأشار لهم إليه ، وفعل قولا يكون حكاية له وشبها به ، يعلم المستمعون أن معرفتهم بالحقائق المشهودة هي الطريق التي يعرفون بها الأمور الغائبة .

فينبغي أن تعرف هذه الدرجات :

أولها : إدراك الإنسان المعاني الحسية المشاهدة .

وثانيها : عقله لمعانيها الكلية .

وثالثها : تعريف الألفاظ الدالة على تلك المعاني الحسية والعقلية . فهذه المراتب الثلاث لا بد منها في كل خطاب . فإذا أخبرنا عن الأمور الغائبة فلا بد من تعريفنا المعاني المشتركة بينها وبين الحقائق [ ص: 68 ] المشهودة والاشتباه الذي بينهما ، وذلك بتعريفنا الأمور المشهودة . ثم إن كانت مثلها لم يحتج إلى ذكر الفارق ، كما تقدم في قصص الأمم ، وإن لم يكن مثلها ، بين ذلك بذكر الفارق ، بأن يقال : ليس ذلك مثل هذا ، ونحو ذلك . وإذا تقرر انتفاء المماثلة كانت الإضافة وحدها كافية في بيان الفارق ، وانتفاء التساوي لا يمنع منه وجود القدر المشترك الذي هو مدلول اللفظ المشترك ، وبه صرنا نفهم الأمور الغائبة ولولا المعنى المشترك ما أمكن ذلك قط .

التالي السابق


الخدمات العلمية