صفحة جزء
وحلول الحوادث بالرب تعالى ، المنفي في علم الكلام المذموم ، لم يرد نفيه ولا إثباته في كتاب ولا سنة ، وفيه إجمال : فإن أريد بالنفي أنه سبحانه لا يحل في ذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة ، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن - فهذا نفي صحيح . وإن أريد به نفي الصفات الاختيارية ، من أنه لا يفعل ما يريد ، ولا يتكلم بما شاء إذا شاء ، ولا أنه يغضب ويرضى لا كأحد من الورى ، ولا يوصف بما وصف به نفسه من النزول والاستواء والإتيان كما يليق بجلاله وعظمته - فهذا نفي باطل .

وأهل الكلام المذموم يطلقون نفي حلول الحوادث ، فيسلم السني للمتكلم ذلك ، على ظن أنه نفى عنه سبحانه ما لا يليق بجلاله ، فإذا سلم له هذا النفي ألزمه نفي الصفات الاختيارية وصفات الفعل ، وهو لازم له . وإنما أتي السني من تسليم هذا النفي المجمل ، وإلا فلو استفسر واستفصل لم ينقطع معه .

وكذلك مسألة الصفة : هل هي زائدة على الذات أم لا ؟ لفظها [ ص: 98 ] مجمل ، وكذلك لفظ الغير ، فيه إجمال ، فقد يراد به ما ليس هو إياه ، وقد يراد به ما جاز مفارقته له .

ولهذا كان أئمة السنة رحمهم الله تعالى لا يطلقون على صفات الله وكلامه أنه غيره ، ولا أنه ليس غيره . لأن إطلاق الإثبات قد يشعر أن ذلك مباين له ، وإطلاق النفي قد يشعر بأنه هو هو ، إذا كان لفظ الغير فيه إجمال ، فلا يطلق إلا مع البيان والتفصيل : فإن أريد به أن هناك ذاتا مجردة قائمة بنفسها منفصلة عن الصفات الزائدة عليها - فهذا غير صحيح ، وإن أريد به أن الصفات زائدة على الذات التي يفهم من معناها غير ما يفهم من معنى الصفة - فهذا حق ، ولكن ليس في الخارج ذات مجردة عن الصفات ، بل الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها لا تنفصل عنها ، وإنما يفرض الذهن ذاتا وصفة ، كلا وحده ، ولكن ليس في الخارج ذات غير موصوفة ، فإن هذا محال . ولو لم يكن إلا صفة الوجود ، فإنها لا تنفك عن الموجود ، وإن كان الذهن يفرض ذاتا ووجودا ، يتصور هذا وحده ، وهذا وحده ، لكن لا ينفك أحدهما عن الآخر في الخارج .

وقد يقول بعضهم : الصفة لا عين الموصوف ولا غيره . هذا له معنى صحيح ، وهو : أن الصفة ليست عين ذات الموصوف التي يفرضها الذهن مجردة بل هي غيرها ، وليست غير الموصوف ، بل الموصوف بصفاته شيء واحد غير متعدد .

[ ص: 99 ] والتحقيق أن يفرق بين قول القائل : الصفات غير الذات ، وبين قوله : صفات الله غير الله ، فإن الثاني باطل ; لأن مسمى الله يدخل فيه صفته بخلاف مسمى الذات ، فإنه لا يدخل فيه الصفات ; لأن المراد أن الصفات زائدة على ما أثبته المثبتون من الذات ، والله تعالى هو الموصوف بالذات الموصوفة بصفاته اللازمة ، ولهذا قال الشيخ رحمه الله : " لا زال بصفاته " ولم يقل : لا زال وصفاته ; لأن العطف يؤذن بالمغايرة ، وكذلك قال الإمام أحمد رضي الله عنه في مناظرته الجهمية ، لا نقول : الله وعلمه ، الله وقدرته ، الله ونوره ، ولكن نقول : الله بعلمه وقدرته ونوره هو إله واحد سبحانه وتعالى .

فإذا قلت : أعوذ بالله فقد عذت بالذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال المقدس الثابتة التي لا تقبل الانفصال بوجه من الوجوه

وإذا قلت : أعوذ بعزة الله ، فقد عذت بصفة من صفات الله تعالى ، ولم أعذ بغير الله . وهذا المعنى يفهم من لفظ الذات ، فإن ذات في أصل معناها لا تستعمل إلا مضافة ، أي : ذات وجود ، ذات قدرة ، ذات عز ، ذات علم ، ذات كرم ، إلى غير ذلك من الصفات . فذات كذا بمعنى صاحبة كذا : تأنيث ذو . هذا أصل معنى الكلمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية