صفحة جزء
والطريقة المشهورة عند أهل الكلام والنظر ، تقرير نبوة الأنبياء بالمعجزات ، لكن كثير منهم لا يعرف نبوة الأنبياء إلا بالمعجزات ، وقرروا ذلك بطرق مضطربة ، والتزم كثير منهم إنكار خرق العادات لغير الأنبياء ، حتى أنكروا كرامات الأولياء والسحر ، ونحو ذلك .

ولا ريب أن المعجزات دليل صحيح ، لكن الدليل غير محصور في المعجزات ، فإن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين ، ولا يلتبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين . بل قرائن أحوالهما تعرب عنهما ، وتعرف بهما ، والتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما دون دعوى النبوة ، فكيف بدعوى النبوة ؟ وما أحسن ما قال حسان رضي الله عنه :


[ ص: 141 ] لو لم يكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر

وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه - ما ظهر لمن له أدنى تمييز . فإن الرسول لا بد أن يخبر الناس بأمور ويأمرهم بأمور ، ولا بد أن يفعل أمورا [ يبين بها صدقه ] . والكاذب يظهر في نفس ما يأمر به ويخبر عنه وما يفعله ما يبين به كذبه من وجوه كثيرة . والصادق ضده . بل كل شخصين ادعيا أمرا : أحدهما صادق والآخر كاذب - لا بد أن يظهر صدق هذا وكذب هذا ولو بعد مدة ، إذ الصدق مستلزم للبر ، والكذب مستلزم للفجور ، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي إلى البر ، [ وإن ] البر يهدي إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق [ ويتحرى الصدق ] ، حتى يكتب عند الله صديقا ، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب ، حتى يكتب عند [ ص: 142 ] الله كذابا . ولهذا قال تعالى : هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون ( الشعراء : 221 - 226 ) . فالكهان ونحوهم ، وإن كانوا أحيانا يخبرون بشيء من الغيبيات ، ويكون صدقا - فمعهم من الكذب والفجور ما يبين أن الذي يخبرون به ليس عن ملك ، وليسوا بأنبياء ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد : قد خبأت لك خبيئا ، فقال : هو الدخ - قال له النبي صلى الله عليه وسلم : اخسأ ، فلن تعدو قدرك يعني : إنما أنت كاهن . وقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يأتيني [ ص: 143 ] صادق وكاذب . وقال : أرى عرشا على الماء ، وذلك هو عرش الشيطان وبين أن الشعراء يتبعهم الغاوون ، والغاوي : الذي يتبع هواه وشهوته ، وإن كان ذلك مضرا له في العاقبة .

فمن عرف الرسول وصدقه ووفاءه ومطابقة قوله لعمله - علم علما يقينا أنه ليس بشاعر ولا كاهن .

والناس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة ، حتى في المدعي للصناعات والمقالات ، كمن يدعي الفلاحة والنساجة والكتابة ، وعلم النحو والطب والفقه وغير ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية