صفحة جزء
وأما استدلالهم بقوله تعالى : الله خالق كل شيء ( الرعد : 16 ) ، والقرآن شيء ، فيكون داخلا في عموم كل فيكون مخلوقا ! ! فمن أعجب العجب . وذلك : أن أفعال العباد كلها عندهم غير مخلوقة لله تعالى ، وإنما يخلقها العباد جميعها ، لا يخلقها الله فأخرجوها من عموم كل ، وأدخلوا كلام الله في عمومها ، مع أنه صفة من [ ص: 179 ] صفاته ، به تكون الأشياء المخلوقة ، إذ بأمره تكون المخلوقات ، قال تعالى : والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر ( الأعراف : 54 ) . ففرق بين الخلق والأمر ، فلو كان الأمر مخلوقا لزم أن يكون مخلوقا بأمر آخر ، والآخر بآخر ، إلى ما لا نهاية له ، فيلزم التسلسل ، وهو باطل . وطرد باطلهم : أن تكون جميع صفاته تعالى مخلوقة ، كالعلم والقدرة وغيرهما ، وذلك صريح الكفر ، فإن علمه شيء ، وقدرته شيء ، وحياته شيء ، فيدخل ذلك في عموم كل ، فيكون مخلوقا بعد أن لم يكن ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .

وكيف يصح أن يكون متكلما بكلام يقوم بغيره ؟ ولو صح ذلك للزم أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات كلامه ! وكذلك أيضا ما خلقه في الحيوانات ، لا يفرق حينئذ بين نطق وأنطق . وإنما قالت الجلود : أنطقنا الله ( فصلت : 21 ) ، ولم تقل : نطق الله ، بل يلزم أن يكون متكلما بكل كلام خلقه في غيره ، زورا كان أو كذبا أو كفرا أو هذيانا ! ! تعالى الله عن ذلك . وقد طرد ذلك الاتحادية ، فقال ابن عربي :


وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه !

[ ص: 180 ] ولو صح أن يوصف أحد بصفة قامت بغيره ، لصح أن يقال للبصير : أعمى ، وللأعمى : بصير ! لأن البصير قد قام وصف العمى بغيره ، والأعمى قد قام وصف البصر بغيره ! ولصح أن يوصف الله تعالى بالصفات التي خلقها في غيره ، من الألوان والروائح والطعوم والطول والقصر ونحو ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية