صفحة جزء
[ ص: 414 ] ذكر سعة حفظه وسيلان ذهنه ، سوى ما تقدم :

أخبرنا أحمد بن عمر اللؤلؤي ، فيما قرأت عليه ، عن الحافظ أبي الحجاج المزي ، أن يوسف بن يعقوب أخبره ، أنا أبو اليمن الكندي ، أنا أبو منصور القزاز ، أنا أبو بكر الخطيب ، حدثني محمد بن أبي الحسن الساحلي ، ثنا أحمد بن الحسن الرازي ، سمعت أبا أحمد بن عدي ، يقول : سمعت عدة مشايخ يقولون : إن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد ، فسمع به أصحاب الحديث ، فاجتمعوا ، وعمدوا إلى مائة حديث ، فقلبوا متونها ، وأسانيدها ، وجعلوا متن هذا الإسناد إسناد آخر ، وإسناد هذا المتن لمتن آخر ، ودفعوها إلى عشرة أنفس لكل رجل عشرة أحاديث ، وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك على البخاري ، وأخذوا الموعد للمجلس ، فحضر المجلس جماعة من الغرباء من أهل خراسان وغيرها ، ومن البغداديين ، فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث فقال البخاري : لا أعرفه ، فما زال يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته ، والبخاري يقول : لا أعرفه ، فكان (الفقهاء ) ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون : فهم الرجل ، ومن كان منهم غير ذلك يقضي على البخاري بالعجز والتقصير ، وقلة (الفهم ) ، ثم انتدب رجل آخر من العشرة ، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة ، فقال البخاري : لا أعرفه ، فسأله عن آخر ، فقال لا أعرفه ، فلم يزل يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته ، والبخاري يقول : لا أعرفه ، ثم انتدب له الثالث والرابع إلى تمام العشرة ، حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة والبخاري لا يزيدهم على لا أعرفه ، فلما علم البخاري أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول منهم ، فقال : أما حديثك الأول فهو كذا ، وصوابه كذا ، وحديثك الثاني فهو كذا ، والثالث ، والرابع ، على الولاء حتى أتى [ ص: 415 ] على تمام العشرة ، فرد كل متن إلى إسناده ، وكل إسناد إلى متنه ، وفعل بالآخرين مثل ذلك ، ورد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها ، وأسانيدها إلى متونها ، فأقر الناس له بالحفظ وأذعنوا له بالفضل .

قلت : هنا نخضع للبخاري ، فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب ، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة .

وقد روينا عن أبي بكر الكوذاني ، قال : ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل ، كان يأخذ الكتاب من العلم فيطلع إليه اطلاعة ، فيحفظ عامة أطراف الأحاديث من مرة واحدة ، وقد سبق ما حكاه حاشد بن إسماعيل في أيام طلبهم معه بالبصرة وكونه كان يحفظ ما يسمع ولا يكتب .

وقال أبو الأزهر : كان بسمرقند أربعمائة محدث ، فتجمعوا وأحبوا أن يغالطوا محمد بن إسماعيل ، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق ، وإسناد اليمن في إسناد الحرم ، فما تعلقوا منه بسقطة .

وقال غنجار في تاريخه : سمعت أبا القاسم منصور بن إسحاق بن إبراهيم الأسدي ، يقول : سمعت أبا محمد عبد الله بن محمد بن إبراهيم الداغوني ، يقول : سمعت يوسف بن موسى المروزي ، يقول : كنت بالبصرة في جامعها ، أو سمعت مناديا ينادي : يا أهل العلم ! لقد قدم محمد بن إسماعيل البخاري ، فقاموا في طلبه ، وكنت معهم ، فرأينا رجلا شابا ، لم يكن في لحيته بياض ، فصلى خلف الأسطوانة ، فلما فرغ (من الصلاة ) أحدقوا به ، وسألوه أن يعقد لهم مجلس الإملاء ، فأجابهم [ ص: 416 ] إلى ذلك ، فقام المنادي ثانية (فنادى ) في جامع البصرة ، لقد قدم أبو عبد الله محمد بن إسماعيل ، فسألناه بأن يعقد مجلس الإملاء ، فأجاب بأن يجلس غدا في موضع كذا ، فلما كان الغداة حضر الفقهاء ، والمحدثون ، والحفاظ ، والنظار حتى اجتمع قريب من كذا وكذا ألف نفس ، فجلس أبو عبد الله للإملاء ، فقال قبل أن يأخذ في الإملاء : يا أهل البصرة ! أنا شاب ، وقد سألتموني أن أحدثكم ، وسأحدثكم بأحاديث عن أهل بلدكم تستفيدونها ، يعني ليست عندكم ، قال : فتعجب الناس من قوله . فأخذ في الإملاء ، فقال : حدثنا عبد الله بن عثمان بن جبلة بن [رواد] العتكي بلديكم ، ثنا أبي ، عن شعبة ، عن منصور وغيره ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن أنس بن مالك ، أن أعرابيا جاء إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله الرجل يحب القوم . . . الحديث . ثم قال : هذا ليس عندكم إنما عندكم من غير منصور . قال يوسف بن موسى ، وأملى عليهم مجلسا على هذا النسق ، فيقول في كل حديث : روى فلان هذا الحديث عندكم كذا . وأما من رواية فلان يعني التي يسوقها فليست عندكم .

وقال حمدويه بن الخطاب : لما قدم البخاري قدمته الأخيرة من العراق ، وتلقاه من تلقاه من الناس ، وازدحموا عليه ، وبالغوا في بره ، فقيل له في ذلك ، فقال : كيف لو رأيتم يوم دخولنا البصرة؟

أنبئت ، عن أبي نصر بن الشيرازي ، عن جده ، أن الحافظ أبا القاسم بن عساكر ، أخبره : أنا إسماعيل بن أبي صالح . ح . وقرأته عاليا على أبي بكر [ ص: 417 ] الفرضي ، عن القاسم بن المظفر ، أنا علي بن الحسين ، عن الحافظ أبي الفضل بن ناصر ، وأبي الفضل الميهني ، قالا : أنا أبو بكر بن خلف ، قال ابن ناصر إجازة : أنا الحاكم ، حدثني أبو سعيد أحمد بن محمد النسوي ، حدثني أبو حسان مهيب بن سليم ، سمعت محمد بن إسماعيل ، قال : اعتللت بنيسابور علة خفيفة ، وذلك في شهر رمضان ، فعادني إسحاق بن راهويه في نفر من أصحابه ، فقال لي : أفطرت يا أبا عبد الله؟ ! فقلت : نعم ، فقال : (خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة ) فقلت : أنا عبدان ، عن ابن المبارك ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء من أي المرض أفطر ، فقال : من أي مرض كان ، كما قال الله عز وجل : فمن كان منكم مريضا قال البخاري : لم يكن هذا عند إسحاق ، قلت : هذا رواه عبد الرزاق في مصنفه ، عن ابن جريج أيضا ، ولعله فات إسحاق .

وقال محمد بن أبي حاتم ، وراق البخاري : سمعته يقول : لو نشر بعض إسنادي لم يفهموا كيف صنفت التاريخ ولا عرفوه ، ثم قال صنفته ثلاث مرات .

وقال أحمد بن أبي جعفر والي بخارى : قال لي محمد بن إسماعيل يوما : رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ، ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر ، فقلت له : يا أبا عبد الله ! بتمامه؟ فسكت .

وقال سليم بن مجاهد : قال لي محمد بن إسماعيل ، لا أجيء بحديث عن الصحابة ، أو التابعين إلا عرفت مولد أكثرهم ، ووفاتهم ، ومساكنهم ، ولست أدري حديثا من حديث الصحابة والتابعين ، يعني من الموقوفات إلا ولي في ذلك أصل أحفظه حفظا عن كتاب الله ، وسنة رسوله ، صلى الله عليه وسلم .

وقال علي بن الحسين بن عاصم البيكندي : قدم علينا محمد بن إسماعيل ، فقال [ ص: 418 ] له رجل من أصحابنا ، سمعت إسحاق بن راهويه يقول : كأني أنظر إلى سبعين ألف حديث من كتابي ، فقال محمد بن إسماعيل : أو تعجب من هذا؟ لعل في هذا الزمان من ينظر إلى مائتي ألف حديث من كتابه ، وإنما عنى نفسه .

وقال محمد بن حمدويه : سمعت البخاري ، يقول : أحفظ مائة ألف حديث صحيح ، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح .

وقال له وراقه : تحفظ جميع ما أدخلت في المصنف ، فقال : لا يخفى علي جميع ما فيه ، وصنفت جميع كتبي ثلاث مرات .

قال : وبلغني أنه شرب البلاذر ، فسألته حلوة ، هل من دواء للحفظ؟ فقال : لا أعلم ، ثم أقبل علي ، فقال : لا أعلم شيئا أنفع للحفظ من نهمة الرجل ، ومداومة النظر .

وقال : أقمت بالمدينة بعد أن حججت سنة جرداء أكتب الحديث . قال : وأقمت بالبصرة خمس سنين ، معي كتبي ، أصنف وأحج في كل سنة ، وأرجع من مكة إلى البصرة ، قال : وأنا أرجو أن الله تعالى يبارك للمسلمين في هذه المصنفات وعن البخاري ، قال : تذكرت يوما أصحاب أنس ، فحضرني في ساعة ثلاثمائة نفس ، وما قدمت على شيخ إلا كان انتفاعه بي أكثر من انتفاعي به .

وقال وراقه : عمل كتابا في الهبة فيه نحو خمسمائة حديث ، وقال : ليس في كتاب وكيع في الهبة إلا حديثان مسندان ، أو ثلاثة ، وفي كتاب ابن المبارك خمسة أو نحوه .

وقال وراقه : سمعته يقول : ما نمت البارحة حتى عددت كم أدخلت في [ ص: 419 ] تصانيفي من الحديث ، فإذا نحو مائتي ألف . وقال : أيضا لو قيل لي (شيء ) لما قمت حتى أروي عشرة آلاف حديث في الصلاة خاصة ، وقال : ما جلست للتحديث حتى عرفت الصحيح من السقيم ، وحتى نظرت في كتب أهل الرأي ، وما تركت بالبصرة حديثا إلا كتبته .

قال : وسمعته يقول : لا أعلم شيئا يحتاج إليه ، إلا وهو في الكتاب والسنة . قال : فقلت له : يمكن معرفة ذاك؟ قال : نعم .

وقال أحمد بن حمدون الحافظ : رأيت البخاري في جنازة ، ومحمد بن يحيى الذهلي يسأله عن الأسماء والعلل ، والبخاري يمر فيه مثل السهم ، كأنه يقرأ قل هو الله أحد .

التالي السابق


الخدمات العلمية