صفحة جزء
[ ص: 130 ] قوله تعالى: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الآية: خطاب لعلماء اليهود، وكانوا يقولون لأقربائهم من المسلمين: اثبتوا على ما أنتم عليه ولا يؤمنون، والألف للاستفهام، معناه: التوبيخ والمراد بالبر: الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والنسيان هاهنا بمعنى: الترك، ومنه قوله تعالى: نسوا الله فنسيهم وبخهم الله تعالى على ما كانوا يفعلون من أمر الناس بالإيمان وترك أنفسهم ذلك.

وقوله تعالى: (وأنتم تتلون الكتاب) أي: تقرؤون التوراة، وفيها صفة محمد صلى الله عليه وسلم، أفلا تعقلون أنه حق فتتبعونه، وأصل التلاوة من قولهم: تلاه يتلوه إذا تبعه، والتلاوة: إتباع الحروف بالقراءة، ويقال عقل الرجل يعقل عقلا، إذا كان عاقلا، وعقل الإنسان هو تمييزه الذي به فارق جميع الحيوان، سمي عقلا لأنه يعقله، أي: يمنعه من التورط في الهلكة كما يمنع العقال البعير عن ركوب رأسه.

أخبرنا أبو سعيد عبد الرحمن بن الحسن التاجر ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن شاذان ، حدثنا صالح بن أحمد الهروي ، حدثنا أبو بجير محمد بن جابر ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، حدثنا سفيان ، عن خالد بن سلمة ، عن أنس بن مالك ، قال:

[ ص: 131 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال: هؤلاء خطباء من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم " . .

ثم رجع إلى خطاب المسلمين فأمرهم أن يستعينوا على ما يطلبونه من رضاء الله تعالى ونيل جنته بالصبر والصلاة، فقال: واستعينوا بالصبر والصلاة : ومعنى الصبر: حبس النفس على شيء تكرهه، والمراد بالصبر هاهنا: الصبر على أداء الفرائض، واجتناب المحارم، واحتمال الأذى، وجهاد العدو، وعلى المصائب.

وقوله: (والصلاة) لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.

وقال مجاهد : الصبر في هذه الآية: الصوم، ويقال لشهر رمضان: شهر الصبر.

وقوله تعالى: (وإنها لكبيرة) قال الحسن والضحاك : ثقيلة، وكل ما ثقل على الإنسان كبر عليه، كقوله تعالى: كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ، والكناية في (وإنها) تعود على الصلاة لأنها الأغلب والأفضل والأهم، كقوله تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ، وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها .

وقوله تعالى: (إلا على الخاشعين) أي: المطيعين الساكنين إلى الطاعة، الخشوع معناه في اللغة: السكون، قال: وخشعت الأصوات للرحمن.

[ ص: 132 ] وقوله تعالى: الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم هذا من نعت الخاشعين، والعرب تقول لليقين: ظن، وللشك: ظن، لأن في الظن طرفا من اليقين، قال الله تعالى: إني ظننت أني ملاق حسابيه ، وقال: ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ، وقال: إن ظنا أن يقيما حدود الله ، كل هذا بمعنى اليقين.

وقال دريد بن الصمة :


فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد



أي: أيقنوا.

والملاقاة: اللقاء، بمعنى العيان والاجتماع والمحاذاة والمصير، كقوله تعالى: إن الذين لا يرجون لقاءنا ، أي: لا يخافون المصير إلينا، وقال: قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم أي: مجتمع معكم وصائر إليكم.

قال ابن عباس : يريد الذين يستيقنون أنهم مبعوثون وأنهم محاسبون وأنهم راجعون إلى الله تعالى، واللقاء والملاقاة، من حيث ذكر في القرآن، يحمله المفسرون على البعث والصبر إلى الله عز وجل.

وقوله تعالى: (وأنهم إليه راجعون) أي: يصدقون بالبعث ويقرون بالنشأة الثانية، وجعل رجوعهم بعد الموت إلى المحشر رجوعا إليه.

التالي السابق


الخدمات العلمية