صفحة جزء
ولما تبين للملك عذر يوسف، وعرف أمانته وكفايته وعلمه وعقله قال: [ ص: 618 ] وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون

ائتوني به أستخلصه لنفسي أجعله خالصا لي لا يشركني فيه أحد فلما كلمه قال الكلبي: لما صار يوسف إلى الملك، وكان في ذلك الوقت ابن ثلاثين سنة، فلما رآه الملك حدثا شابا قال للساقي: أهذا يعلم من تأويل رؤياي ما لم يعلمه السحرة ولا الكهنة؟ قال: نعم.

فأقبل على يوسف، وقال: إني أحب أن أسمع تأويل رؤياي منك شفاها، فأجابه يوسف بما شفاه وشهد قلبه بصحته، فعند ذلك قال له الملك إنك اليوم لدينا مكين أمين قال ابن عباس: يريد مكنتك في ملكي، وجعلت سلطانك فيه كسلطاني، وائتمنتك فيه.

وقال الزجاج: أي: قد عرفنا أمانتك وبراءتك مما قذفت به.

ولما عبر يوسف رؤيا الملك بين يديه قال له الملك: فما ترى أيها الصديق؟ قال: أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعا كثيرا، وتبني الأهرام وتجمع فيها الطعام ليأتيك الخلق من النواحي فيمتارون منك لحكمك، ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك، فقال الملك: ومن لي بهذا؟ ومن يجمعه، ويكفي الشغل فيه؟ فقال يوسف: اجعلني على خزائن الأرض يعني: أرض مصر إني حفيظ لما وليت عليم بأمره.

قاله قتادة، وقال السدي: حفيظ للحساب عالم بالألسن.

وذلك أن الناس كانوا يفدون على الملك من كل ناحية، ويتكلمون بلغات مختلفة، فقال له الملك: ومن أحق به منك؟ فولاه ذلك كله.

أخبرنا الأستاذ أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني الحسين بن محمد الثقفي، نا مخلد بن جعفر، نا الحسن بن علويه، نا إسماعيل بن عيسى، نا إسحاق بن بشر، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رحم الله أخي يوسف، لو لم يقل: اجعلني على خزائن الأرض لولاه من ساعته، ولكنه أخر ذلك عنه سنة".

[ ص: 619 ] قال أصحاب الأخبار: فأقام في بيت الملك سنة، فلما انصرفت السنة من يوم أن سأل الإمارة دعاه الملك، وتوجه، ورداه بسيفه، وأمر له بسرير من ذهب، وضرب عليه كلة من إستبرق مكللة بالدر والياقوت، ثم أمره أن يخرج، فخرج متوجا لونه كالثلج، ووجهه كالقمر يرى الناظر وجهه في صفاء لونه، فانطلق حتى جلس على السرير، ودانت له الملوك، ولزم الملك بيته، وفوض أمره إليه، وعزل قطفير عما كان عليه، وجعل يوسف مكانه، ثم إن قطفير هلك في تلك الليالي، فزوج الملك يوسف براعيل امرأة قطفير، فلما دخل عليها قال لها: أليس هذا خيرا مما كنت تريدين؟ فقالت: أيها الصديق، لا تلمني فإني كنت امرأة حسناء ناعمة في ملك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في صورتك فغلبتني نفسي، فلما بنى بها يوسف وجدها عذراء، فأصابها، فولدت له ابنين: أفرايم، وميشا ابني يوسف، واستوثق ليوسف ملك مصر.

فذلك قوله: وكذلك مكنا ليوسف أي: ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه أقدرنا يوسف على ما يريد في الأرض أرض مصر يتبوأ منها حيث يشاء هذا تفسير التمكين، وقرأ ابن كثير: نشاء بالنون وذلك أن مشيئة يوسف لما كانت بمشيئة الله وإقداره عليها جاز أن ينسب إلى الله تعالى، وإن كان في المعنى ليوسف نصيب برحمتنا من نشاء قال ابن عباس: أتفضل على من أشاء برحمتي.

ولا نضيع أجر المحسنين ثواب الموحدين.

ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا أي: ما يعطي الله تعالى من ثواب الآخرة خير للذين آمنوا، أي: خير مما يعطي الله المؤمنين في الدنيا، والمعنى: أن ما يعطي الله يوسف في الآخرة خير مما أعطاه في الدنيا، وكذلك غيره ممن يسلك طريقه في الصبر على المكاره، وقال أصحاب الأخبار: لما اطمأن يوسف في ملكه، وخلت السنون المخصبة ودخلت سنو الجدب، جاءت بهول لم يعهد الناس مثله، وأصاب الناس الجوع، ولما كان بدو القحط بينما الملك نائم أصابه الجوع في نصف الليل، فهتف الملك: يا يوسف الجوع الجوع.

فقال يوسف: هذا أوان القحط.

وكان يوسف لا يمتلئ شبعا من الطعام في تلك الأيام، فقيل له: أتجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال: أخاف إن شبعت أنسى الجائع.

وقصد الناس مصر يمتارون، وأصاب أرض كنعان، وبلاد الشام من القحط والشدة ما أصاب سائر البلاد، ونزل بيعقوب من ذلك ما نزل بالناس، فأرسل بنيه إلى مصر للميرة، وأمسك بنيامين عنده فلما دخلوا عليه عرفهم يوسف وأنكروه فذلك قوله:

التالي السابق


الخدمات العلمية