تهذيب الآثار للطبري

الطبري - محمد بن جرير الطبري

صفحة جزء
القول في البيان عما في هذه الأخبار من الغريب

فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "اللهم علمه الحكمة"، والحكمة: الفعلة من الحكم، مثل الجلسة من الجلوس، والقعدة من القعود، وقد تأولت جماعة من أهل التأويل من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين الحكمة في قول الله تعالى ذكره: يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا أنها القرآن، وتأولت الحكمة في قوله تعالى: ويعلمهم الكتاب والحكمة أنها السنن التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من الله جل ثناؤه إليه، وكلا التأويلين في موضعه صحيح، وذلك أن القرآن حكمة، أحكم الله عز ذكره فيه لعباده حلاله وحرامه، وبين لهم فيه أمره ونهيه، وفصل لهم فيه شرائعه، فهو كما وصفه به ربنا تبارك وتعالى بقوله: ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة ، وكذلك سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سنها لأمته، عن وحي الله جل ثناؤه إليه، حكمة حكم بها فيهم، ففصل بها بين الحق والباطل، وبين لهم بها مجمل ما في آي القرآن، وعرفهم بها معاني ما في التنزيل .

[ ص: 183 ] وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وعلمه التأويل"، فإنه عنى بالتأويل، ما يئول إليه معنى ما أنزل الله تعالى ذكره على نبيه صلى الله عليه وسلم من التنزيل وآي الفرقان، وهو مصدر من قول القائل: "أولت هذا القول تأويلا"، وأصله من آل الأمر إلى كذا، إذا رجع إليه ، ثم قيل: أول فلان له كذا على كذا، إذا حملها على وجه جعل مرجعها إليه تأويلا، ومن قولهم أول فلان له كذا على كذا قول أعشى بن قيس بن ثعلبة لعلقمة بن علاثة العامري:

وأول الحكم على وجهه ليس قضائي بالهوى الجائر

يعني بقوله: "وأول الحكم على وجهه" ، وجهه إلى وجهه الذي هو وجهه من الصواب.

وأما قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عاشره منا أحد". ، فإنه يعني بقوله: "ما عاشره منا أحد" : ما بلغ عشيره منا أحد. يقال منه: "عشر فلان فلانا"، إذا بلغ عشره، "يعشره عشرا".

[ ص: 184 ] والعشر المصدر، وهو "عشره وعشيره، ومعشاره"، ومن "المعشار" قول الله تعالى ذكره: وما بلغوا معشار ما آتيناهم ، ومن "العشير" قول الشاعر:

فما بلغ المداح مدحك كله     ولا عشر معشار العشير المعشر

ويجمع "العشير" أعشرا "،" والعشر "أعشارا"، كما قال امرؤ القيس بن حجر في جمع "العشر":

وما ذرفت عيناك إلا لتضربي     بسهميك في أعشار قلب مقتل

وأما قول عبيد الله بن عبد الله: "وإن كانت الأقضية إذا جاءت عمر عضلها" فإنه يعني بقوله: "عضلها" شدادها وصعابها، وأصل ذلك من قولهم للرجل المنكر الداهية: هو عضلة من العضل، وأما العضل، بفتح العين وسكون الضاد فإنه معنى غير ذلك، وهو منع ولي المرأة المرأة التزويج، من قول الله تعالى ذكره: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن ، يقال منه: عضلها وليها فهو يعضلها عضلا، وأما التعضيل، فإنه معنى غير هذين، وهو أن ينشب الولد فلا يسهل .

[ ص: 185 ] مخرجه، يقال في ذلك: عضلت الشاة والمرأة تعضيلا، إذا أصابها ذلك، وهي شاة معضل، ومعضلة، ومنه قول أوس بن حجر:

ترى الأرض منا بالفضاء مريضة     معضلة منا بجمع عرمرم

وأما "الإعضال": فإنه معنى غير ذلك كله، وهو اشتداد الأمر، يقال منه: "أعضل الأمر بين بني فلان وبني فلان" إذا اشتد فغلبهم، ويقال للشداد من الأمور: "المعضلات"، ومن ذلك قول أوس بن حجر:

وليس أخوك الدائم العهد بالذي     يذمك إن ولى ويرضيك مقبلا
ولكن أخوك النائي ما كنت آمنا     وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا

يعني بقوله: "أعضل": اشتد.

التالي السابق


الخدمات العلمية