تهذيب الآثار للطبري

الطبري - محمد بن جرير الطبري

صفحة جزء
القول في البيان عما في هذه الأخبار من الغريب

فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم إذ سئل عمن قدم شيئا من نسكه قبل شيء: "لا حرج"، يعني صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا حرج"، لا ضيق في فعل ذلك، أي أن.

[ ص: 236 ] ذلك واسع له في الدين، مطلق غير مضيق فيه. وأصل الحرج: الضيق، ومنه قول الله تعالى ذكره: وما جعل عليكم في الدين من حرج .

وأما قوله إذ قال له: "أفضت قبل أن أرمي" ، فإنه يعني بقوله "أفضت"، رجعت إلى البيت زائره، وإلى الموضع الذي بدأت السمو منه إلى عرفات للطواف بالبيت. وكل عائد إلى أمر بعد بدء، تسميه العرب: مفيضا. وكذلك قيل لضارب القداح بين الأيسار: مفيض، لجمعه القداح، ثم ضربه بها بين المياسرين عودا بعد بدء، ومنه قول بشر بن أبي خازم الأسدي:

فقلت لها: ردي إلي حياته فردت كما رد المنيح مفيض

ومنه قيل للقوم إذا تراجعوا القول بينهم: "أفاضوا في الحديث".

وأما قول عبد الله بن عمرو: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل يومئذ عمن قدم شيئا من نسكه قبل شيء إلا قال: "لا حرج"، حتى تصدعوا عنه، فإنه عنى [ ص: 237 ] بقوله: حتى تصدعوا عنه: حتى تفرقوا عنه، وكل صدع فتفرق، ومنه قيل لصدع الزجاجة أو الحائط وغير ذلك صدع، لمفارقة بعض أجزائه التي كانت ملتئمة قبل الانصداع بعضا، ومنه قيل: لافتراق المؤتلفين من القبائل: قد تصدع ما بين حي فلان وفلان، ومنه قول الشاعر:

لعمري لقد أبقت وقيعة راهط     لمروان صدعا بينا متنائيا

.

[ ص: 238 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية