تهذيب الآثار للطبري

الطبري - محمد بن جرير الطبري

صفحة جزء
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قنت يدعو على الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة مدة، إما شهرا، وإما أكثر من ذلك، في كل صلاة مكتوبة، ثم ترك فعل ذلك في كل صلاة، وثبت قنوته في صلاة الصبح، وصح الخبر عنه عليه السلام أنه لم يزل يقنت في صلاة الصبح حتى فارق الدنيا.

وروى أبو مالك الأشجعي ، عن أبيه أنه قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت.

وكل ذلك من الروايات والأخبار عندنا صحيح، فالقنوت إذا نابت المسلمين نائبة، أو نزلت بهم نازلة، نظيرة النائبة والنازلة التي نابت ونزلت بالمسلمين بمصابهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن قتل منهم ببئر معونة، على من قتلهم وأعان قاتليهم من المشركين، في كل صلاة مكتوبة، على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله في ذلك، إلى أن يكشف الله عنهم النازلة التي نزلت، إما بالظفر بعدوهم الذي كان من قبلهم النازلة، وإما بدخولهم في الإسلام ، أو باستسلامهم [ ص: 386 ] للمسلمين، أو بغير ذلك من الأمور التي يكون بها الفرج للمسلمين من مكروه ما نزل بهم، سنة حسنة

وإن كانت النائبة والنازلة سببا غير ذلك، فإلى أن يزول ذلك عنهم، وذلك أن أبا هريرة روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ابن عباس ، قنوته على كفار مضر شهرا، وذكر أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك بعد ذلك، قال: فقلت: ما بال النبي صلى الله عليه وسلم ترك الدعاء؟ فقيل لي: أوما تراهم قد جاءوا - يعني أن الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عليهم - قد جاءوا مسلمين.

فالقنوت في كل صلاة، إذا نزلت بالمسلمين نائبة عامة أو خاصة، وذلك الدعاء في آخر ركعة من كل صلاة مكتوبة حسن جميل، كما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قنوته كذلك في كل صلاة للسبب الذي ذكرنا قنوته له. ولسنا وإن رأينا ذلك حسنا جميلا، بموجبين على من تركه إعادة صلاته التي ترك ذلك فيها، ولا سجود سهو، عامدا كان تركه ذلك أو ساهيا. وذلك أن الجميع من سلف علماء الأمة وخلفهم، لا خلاف بينهم أن ترك ذلك غير مفسد صلاة مصل، وأن سجود السهو إنما يجب على المصلي، عند من يوجبه بدلا من نقص أو زيادة، لم يكن له عملها في صلاته فعملها، فترك القنوت فيها خارج من كل هذين المعنيين، فلا وجه لإيجاب البدل منه .

[ ص: 387 ] وأما إذا لم يكن سبب يدعو المسلمين إلى القنوت في كل صلاة، إما لنائبة أو نازلة بهم عامة أو خاصة، فترك القنوت في كل الصلوات المكتوبات، خلا صلاة الصبح، هو الحق. وذلك لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ترك القنوت الذي كان يقنته في كل صلاة مكتوبة، بعد دخول القوم الذين كان يقنت عليهم في الإسلام، إلا في صلاة الصبح، فإنه فيما ذكر أنس بن مالك، لم يزل يقنت فيها حتى فارق الدنيا. ولا شك أن دعاءه في ذلك كان على غير الذين دخلوا في الإسلام، فترك القنوت والدعاء عليهم في كل صلاة .

فإن قال قائل: فإنك قد صححت حديث أنس بن مالك ، وقلت به في جواز القنوت في صلاة الصبح في كل حال، وتركت القول بخبر طارق بن أشيم الأشجعي ، مع قولك بتصحيحه، وخلاف خبره خبر أنس ؟ قيل له: ليس الأمر في ذلك كالذي ظننت، بل نحن قائلون بتصحيحهما وتصحيح العمل بهما، فإن قال: وكيف تكون مصححا لهما وللعمل بهما، وأحدهما يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا، والآخر منهما يخبر عنه أنه لم يره قنت، وكلاهما قد صلى معه؟ قيل: إنا لم نقل إنه لا بد من القنوت في كل صلاة صبح، وإنما قلنا: القنوت فيها حسن، فإن قنت فيها قانت فبفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل، وإن ترك [ ص: 388 ] ذلك تارك، فبرخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ.

وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت فيها أحيانا، ويترك القنوت فيها أحيانا، فأخبر أنس عنه أنه لم يزل يقنت فيها، على ما لم يزل يعهده من فعله في ذلك بالقنوت فيها مرة، وترك القنوت فيها أخرى، معلما بذلك أمته أنهم مخيرون في العمل بأي ذلك شاءوا وعملوا به، وأخبر طارق بن أشيم أنه صلى معه فلم يره قنت، وغير منكر أن يكون صلى خلفه في بعض الأحوال التي لم يقنت فيها في صلاته، فأخبر عنه بما رأى وشاهد، وليس قول من قال: لم أر النبي صلى الله عليه وسلم قنت، بحجة يدفع بها قول من قال: رأيته قنت، ولا سيما والقنوت أمر مخير المصلي فيه وفي تركه، كالذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمله به أحيانا، وتركه إياه أحيانا، تعليما منه أمته صلى الله عليه وسلم سبيل الصواب فيه. ولو كان قول من قال من أصحابه: "لم أر رسول الله قنت" دافعا قول من قال: "رأيته يقنت" ، وجب أن يكون قول من قال: لم أره يرفع يديه عند الركوع وعند رفعه رأسه من الركوع، دافعا قول من قال: رأيته يرفع يديه عندهما. وكذلك كان يجب أن يكون كل ما حكي عنه من اختلاف كان يكون منه في صلاته، مما فعله تعليما منه أمته في أنهم مخيرون بين العمل به وتركه، غير جائز العمل إلا بأحدهما، وفي إجماع الأمة على أن ذلك ليس كذلك، وأن رفع اليدين في حال الركوع وحال رفع الرأس منه في الصلاة غير مفسد صلاة المصلي، ولا تركه موجب عليه قضاء ولا بدلا منه، إذ كان ذلك من العمل الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمله أحيانا في صلاته ويتركه أحيانا.

[ ص: 389 ] وكذلك ذلك في القنوت، إذ كان من الأمر الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله أحيانا في صلاة الصبح، ويتركه أحيانا، معلما بذلك أمته أنهم مخيرون في العمل به والترك.

وكذلك القول عندنا فيما روي عن أصحابه في ذلك من الاختلاف، فإن سبيل الاختلاف عنهم فيه، سبيل الاختلاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك أنهم كانوا يقنتون أحيانا على ما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، وأحيانا يتركون القنوت على ما عهدوه يترك، فيشهد قنوتهم في الحال التي يقنتون فيها قوم، فيروون عنهم ما رأوا من فعلهم، ويشهدهم آخرون في الحال التي لا يقنتون فيها، فيروون عنهم ما رأوا من فعلهم، وكلا الفريقين محق صادق .

التالي السابق


الخدمات العلمية