تهذيب الآثار للطبري

الطبري - محمد بن جرير الطبري

صفحة جزء
( القول في البيان عما في هذه الأخبار من الغريب )

فمن ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " إن هذا الوجع : رجز عذب به من قبلكم " .

يعني بقوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " رجز " : عذاب .

ومنه قول الله تعالى ذكره : أولئك لهم عذاب من رجز أليم .

يقال : هو رجز ، ورجس - بالزاي والسين - ومنه قول رؤبة بن العجاج:

كم رامنا من ذي عديد مبز حتى وقمنا كيده بالرجز

يعني بقوله : " وقمنا كيده بالرجز " :

رددنا مكره بالعذاب

.

وأما قول أبي موسى: " إن هذا الوجع قد وقع في أهلنا ، فمن شاء أن يتنزه فليتنزه " .

فإنه يعني بقوله : فمن شاء أن يتنزه : فمن شاء أن يتنحى عنه ، فيبعد منه ، فليتنح وليبعد منه .

ومنه ; قيل : خرج فلان متنزها إذا خرج إلى بستان أو صحراء .

يراد بذلك : أنه خرج متنحيا عن مجمع الناس ، ومتباعدا عن منزله ، وأهله .

ومنه قولهم للموضع المتنحي عن الناس : مكان نزه .

ومنه قول رؤبة بن العجاج: [ ص: 99 ]

سبحن واسترجعن من تألهي     أن كاد أخلاقي من التنزه)

يعني بقوله : " أن كاد - أخلاقي من التنزه " : أن تقترب أخلاقي من الترفع عما يكره من الأمور .

يقال منه : تنزه فلان عن هذا الأمر : إذا تنحى عنه وارتفع .

وأما قول أبي موسى: " فكتب إليه عمر أن الأردن أرض غمقة ، وأن الجابية أرض نزهة " .

فإنه يعني بقوله : إن الأردن أرض غمقة : أنها أرض ندية كثيرة الندى والطل .

يقال : قد غمقت هذه الأرض ، فهي تغمق غمقا ، وهي أرض غمقة .

ومنه قول رؤبة في صفة حمر :

جوازيا يخبطن أنداء الغمق     من باكر الوسمي نصاح البوق

وأما قوله : " وإن الجابية أرض نزهة " فإنه يعني : أنها بعيدة من الغمق .

وإنما وصفها بذلك ; لأنها عن البحر أشد تنحيا من الأردن .

وما قرب من البحر من البلاد فهي أندى وأطل وأكثر بلة مما بعد منها منه .

وأما قول أبي موسى: " فأمرني أن أركب فأبوئ الناس منازلهم " فإنه يعني بقوله : " فأبوئ الناس منازلهم " : فأتخذ لهم منازل ينزلونها ، وأرتاد ذلك لهم .

ومنه قول الله تعالى ذكره : وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال .

يعني : تتخذ لهم مقاعد ، وترتادها لهم ، يقال : منه بوأت القوم منازلهم ، وبوأت لهم منازلهم كما يقال : ردفتك ، وردفت لك .

ونقدت لها صداقها ، ونقدتها ، فأنا أبوئهم تبوئة .

ومسموع من العرب : أبأت القوم منزلا ، فأنا أبيئها إباءة .

ويقال منه : أبأت الإبل : إذا رددتها إلى المباءة .

والمباءة : المراح [ ص: 100 ] الذي تبيت فيه .

ومنه قول الطرماح بن حكيم:

طرف التأنف ما يبن مباءة     حولين طيب بنة الأبعار)

وأما قول أبي موسى قال : فذهب ليركب ، فوجد وخزة ، فإنه يعني بالوخزة : النخسة .

وقيل : الوخزة : أن يجمع الرجل أطراف أصابع يده ، ثم يدفع بها في صدر الرجل أو غيره من جسده .

وهي الفعلة من قولهم : وخزت فلانا ، فأنا أخزه وخزا : إذا نخسته بمنخسة .

ومنه قول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - إذ قال : فناء أمتي بالطعن والطاعون .

فقيل : أما الطعن فقد عرفناه ، فما الطاعون ؟ فقال : وخز أعدائكم من الجن " .

ومنه قول : رؤبة بن العجاج:

والحرب عسراء اللقاح المغزي     بالمشرفيات وطعن وخز)

وأما قول عمرو بن العاص : " فتفرقوا في هذه الشعاب والأدوية " .

فإن : الشعاب : الأنهار الصغار التي تأخذ من الأودية العظام .

وإنما أراد عمرو بذلك : جدوا في هذه الطرق التي تتشعب من الطريق الأعظم ، هربا من الطاعون فتنحوا عنه .

وأما قول طارق بن عبد [ ص: 101 ] الرحمن : " إن الوباء وقع بالشام، واستعر " فإنه يعني بقوله : " استعر " : اتقد وحمي .

وهو افتعل من السعير .

ومنه قول الله تعالى ذكره : وإذا الجحيم سعرت .

وأما قول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " وسألته ألا يلبسهم شيعا " .

فإنه عنى بقوله : شيعا : فرقا .

يقول : سألته ألا يجعلهم متفرقي الأهواء .

ومنه قول الله تعالى ذكره : (إن الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا) .

يعني : فرقا .

ومنه قول رؤبة .


لو أن يأجوج ومأجوج معا     والناس أخلافا علينا شيعا

وأما قول عمر لأبي عبيدة : " أرأيت لو كانت لك إبل ، فهبطت واديا له عدوتان " .

فإنه يعني بالعدوتين : شفيري الوادي ، وجانبيه .

وفيها لغتان : عدوتان - بكسر العين - وعدوتان : بضمها - وينشد في كسرها بيت الراعي :

وعينان حم مآقيهما     كما نظر العدوة الجؤذر

بكسر العين .

وينشد في ضمها بيت أوس بن حجر : [ ص: 102 ]

وفارس لا يحل الحي عدوته     ولوا سراعا وما هموا بإقبال

ويقال للرجل إذا أمر بلزوم ناحية الطريق : الزم أعداء الطريق .

التالي السابق


الخدمات العلمية