تهذيب الآثار للطبري

الطبري - محمد بن جرير الطبري

صفحة جزء
163 - وحدثنا أبو همام ، قال : حدثنا هشيم ، قال : قال مغيرة ، عن إبراهيم أنه قال ذلك .

وفي هذا الخبر - أيضا - الدلالة الواضحة على أن السارق إذا سرق مالا يجب عليه فيه قطع أو ما يجب في مثله القطع إلا أنه زال عنه القطع بسبب شبهة أو غيرها ، أنه يلزمه غرم ما كان قد استهلك من السرقة لصاحبه المسروق منه ، ويؤخذ منه ما وجد منها قائما في يده ، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال : " إذا أقيم على السارق الحد فلا غرم عليه " .

فأزال عنه غرم ما استهلكه بالحد الذي يقام عليه .

فإذا لم يقم عليه الحد ، ولم يكن عليه واجبا ، فلا شك أن عليه الغرم .

وبذلك من القول قال الجميع من سلف علماء هذه الأمة وخلفها .

وفي هذا الخبر أيضا : الدلالة على أن قول الله - تعالى ذكره - والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما : مراد به بعض السراق دون بعض ; وذلك أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال : " إذا أقيم على السارق الحد " أن من السراق من لا يقام عليه الحد ; وإنما لا يقام ذلك عليه لأنه ليس عليه ، ولو كان عليه لأقيم عليه .

[ ص: 115 ] وفيه - أيضا - الدلالة البينة على أن السارق إذا سرق من جماعة شتى سرقات مفترقة أو من واحد مرات ، فاستهلك بعض ذلك ، أدرك بعضه قائما في يده ثم قطعت يده في آخر ذلك ، أنه لا يتبع بغرم شيء كان استهلك قبل ; ذلك لإجماع الجميع على أنه إذا أخذ وقد سرق مرات كثيرة في كل مرة من ذلك ما يجب في مثله القطع ، ثم أخذ بعد ذلك أنه لا يجب إلا قطع يده اليمنى إن كانت موجودة ، فمعلوم بذلك أن ذلك القطع قطع للمرات الكثيرة التي سلفت منه قبل ذلك التي سرق في كل مرة منها ما يجب في مثله القطع ، فسقط عنه بذلك غرم كل ما استهلكه من السرق قبل القطع .

ولو كان ذلك قطعا لسرقته ما سرق ما يجب في مثله القطع لمرة واحدة ، لوجب عليه القطع لسائر المر التي سرق فيها مثل ذلك ، لقطع حتى يؤتى على الأعضاء التي يجب قطعها في السرق يعوده فيها مرة بعد مرة ، وظفر الإمام به في كل مرة من ذلك .

وفي إجماع الجميع على أنه غير واجب ذلك عليه ، وأن الذي يقطع منه إذا ظفر به ، وقد سرق مائة مرة أو أقل أو أكثر في كل ذلك ما يجب في مثله القطع عضو واحد من الأعضاء التي أمر الله - جل ثناؤه - بقطعها من السارق الدليل الواضح على أن ذلك قطع لجميع المر التي سرق فيها قبل ذلك .

فكان بكونه كذلك زائلا عنه غرم كل ما استهلك مما كان سرق قبل ذلك القطع ، بالقطع الذي قطعه ; إذ كان ذلك قطعا لجميع المر التي تقدمت قبل ذلك ويقال لمن أنكر ما قلنا في ذلك فزعم أن السارق إذا قطعت يده بعد سرق مرات كثيرة تقدمت ، فإنما هو قطع للسرق رفع فيه .

فإن كان ما سرق في تلك المرة قائما في يده موجودا ، فإنه يؤخذ منه وتقطع يده ، ويغرم كل ما كان استهلك من سرقة سرقها قبل ذلك مما لم يكن قطع فيه .

[ ص: 116 ] وإن كان ما قطع فيه من السرقة قد استهلكه مع سائر ما سرق قبل ذلك ; فإنه لا يتبع بغرم ما قطع فيه ، ويغرم سائر ما سرق قبل ذلك مما لم يقطع فيه ، وإن كان قد استهلكه .

ما البرهان على صحة ما قلت من أن القطع الذي قطعه السارق الذي وصفنا أمره قطع لما رفع فيه إلى السلطان من المرة الواحدة ، دون أن يكون قطعا لجميع المر التي سرق قبل القطع ؟ وما قلت في شارب من المسلمين وجد يشرب خمرا ، فشهد عليه عدلان من المسلمين أنهم رأوه شرب عشرة أقداح منها في مجلس واحد ، واحدا بعد واحد ؟ أو شهدا عليه أنهما رأياه شرب قدحا واحدا في أنفاس متقطعة : عشرة يتحساها في كل مرة ، ثم يقطع ، ثم يعود ، فتحساها حتى فعل ذلك مرات عشرا : أحد واحد عليه أم عشرة حدود ؟ فإن قالوا : حد واحد .

قيل لهم : فأخبرونا عن ذلك الحد الواحد : أحد لجميع الشرب في الأنفاس والأقداح العشرة أم ذلك حد لأول جرعة تجرع منها ؟ فقد علمتم أن الحد قد وجب عليه بأول جرعة منها ; فإن زعموا أن ذلك حد لشربه ما شرب من ذلك في أول نفس ، وأول قدح قيل لهم : فما شأن شربه في الأنفاس والأقداح الأخر ؟ أموضوع عنه فيه الحد ، فلا حد عليه فيه ، أم عليه لكل جرعة تجرع من ذلك حد غير الحد في الجرعة الأخرى ؟ فإن زعم أن عليه لكل جرعة تجرع من ذلك حدا غير الحد في الجرعة الأخرى غيرها خرج من قول جميع الأمة ، وناقض في قوله في السارق : أن عليه إذا رفع ، وقد سرق مرات كثيرة ، في كل مرة من ذلك ما يجب في مثله القطع ، قطع يد واحدة! وقيل : فهلا أوجبت - أيضا - على السارق لكل مرة سرق قبل الرفع إلى الإمام ما يجب في مثله القطع ، قطعا غير القطع الذي أوجبته لغيرها ؟ [ ص: 117 ] ثم نعكس عليه القول في ذلك ، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله! وإن قال : بل الحد عنه لكل جرعة تجرعها ، ولكل شربة شربها في الأنفاس والأقداح العشرة موضوع إذا هو حد في جرعة من ذلك ، زعم ألا حد على شارب جابية من خمر بعد تجرعه منها جرعة واحدة في أول حال شربه منها تلك الجرعة ، فيقال له حينئذ : فما جعل الحد إذا أقيم عليه بأن يكون حدا لأول جرعة من ذلك بأولى من أن يكون حدا للجرعة الخامسة أو العاشرة أو لآخر شربة منها .

وسئل الفرق بين ذلك ؟ وسئل - أيضا - كذلك في السارق الذي رفع ، وقد سرق مرات عشرا إذا قطع في آخر ذلك ، فيقال له : ما جعل ذلك القطع بأن يكون قطعا فيما رفع فيه من السرق بأولى منه بأن يكون قطعا فيما سرق قبل ذلك .

ويقال له : أرأيت المسروق منهم - العشرة - لو حضروا جميعا وأقام كل واحد منهم البينة العادلة على سرقة ، منه ما يجب فيه القطع ، ألست تقطعه قطعا واحدا ، وتبين منه عضوا واحدا ؟ فإن قال : نعم .

قيل له : أفلبعضهم تقطعه أم لجميعهم ؟ .

فإن قال : لبعضهم .

قيل له : لأيهم تقطعه ؟ الأول من سرق منه أو لأوسطهم أو لآخرهم ؟ فإن قال : لأولهم أو لأوسطهم ؟ قيل له : فما جعله أحق بأن يقطع له من الآخرين غيره ، وقد سرق من كل واحد منهم ما يجب في مثله القطع ، وكل قد استهلك ما سرق منه ؟ وكل يقول : أريد الغرم وقيمة ما سرق مني ، ولا أريد قطعه ؟ ما أنت صانع أتضمنه قيم جميع ما سرق منهم ، وتدرأ عنه القطع ؟ أم تقطعه ، وتضمنه قيمة كل ما سرق من كل واحد منهم .

[ ص: 118 ] فإن قال : لا أقطعه ، وأضمنه قيمة كل ما سرق من كل إنسان منهم ؟ خرج من قول جميع الأمة ، وخالف نص كتاب ربه في دراءة القطع عن السارق الذي لا خلاف بين الأمة في وجوب القطع عليه .

وإن قال : أقطعه ، وأضمنه قيمة كل ما سرق لكل إنسان منهم مما هو مستهلك ؟ ناقض في ذلك من قوله ; لأن من قوله : إن السارق إذا قطع لم يلزمه غرم ما قد استهلكه مما سرق ، فقطع فيه .

وهو لا شك إنما قطع في بعض السرقات التي رفع فيها أو في جميعها ، وفي غيرها ؟ وأي ذلك كان فيه القطع ، فقد وجب على قوله سقوط غرم ما قطع فيه من ذلك ، وفي تضمينه قيمة جميعه البيان البين أنه قد ناقض وترك قوله بإلزامه غرم قيمة ما قد استهلكه ، مع قطعه إياه فيه .

وفي خروج قوله من الصحة بما ذكرنا الدليل الواضح على أن قطعه لجميع السرقات التي سرق قبل القطع ، وألا ضمان عليه لشيء استهلكه من سرقاته التي سرقها قبل ذلك .

وكذلك القول في شرب الخمر ، وسائر ما يجب فيه الحد الذي هو من حدود الله تعالى ذكره التي لا حق فيها لآدمي .

وفي هذا الخبر - أيضا - الدلالة البينة على صحة قول القائلين : إن المحارب من أهل الإسلام إذا أقيم عليه حد الله الذي أوجب على الأئمة إقامته عليه في نفسه ، أنه لا يتبع بشيء مما استهلك في حال حرابته وتلصصه من مال من قطع عليه الطريق ; فأخذ ماله ، وذلك أن المحارب الذي وصفنا أمره لص ، كما السارق مال غيره مستخفيا بسرقته لص سارق .

وفي عموم قول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : السارق إذا أقيم عليه الحد فلا غرم عليه ; كل سارق : البيان البين أن ذلك حكم المحارب ، وغيره من السراق .

[ ص: 119 ] فإن قال لنا قائل : فإن كان الأمر في السارق كالذي وصفت من أنه إذا قطع فيما سرق ، لم يكلف غرم ما استهلك من السرقة ؟ فما وجه إلزامك الغاصب امرأة نفسها حتى يزني بها ; مهر مثلها مع الحد الذي توجبه عليه فتجمع عليه - مع الحد - الغرم ؟ قيل له : إن الجاني عليه لها صداق مثلها مع الحد الذي ألزمه ، غير مشبه الجاني على السارق مع الحد غرم ما استهلك من قيمة السرقة لو كنت به قائلا .

وذلك أني إذا تركت تغريم السارق قيمة ما استهلكه بقطعي إياه في سرقة لم أوجب على المسروق به شيئا في حال من الأحوال .

وأنا إذا تركت تغريم الزاني للتي زنى بها مهر مثلها ، أقمت عليها الحد في بعض الأحوال - بإجماع الأمة جميعها - وتلك حال مطاوعتها إياه حتى تكون زانية كما هو زان .

فلما كانت المرأة إذا نكحت لا تخلو من إحدى حالتين : من أن تكون زانية عليها الحد ، وإذا كانت كذلك لم يكن لها مهر مثلها في قول الجميع .

أو غير زانية ، لا حد عليها ، وإذا لم يكن عليها الحد ، كان لها مهر مثلها ، كالموطوءة بالنكاح الفاسد ، وعلى وجه الشبهة ، ثم كانت المغصوبة نفسها موطوءة لا حد عليها ، كان لها مهر مثلها ، وإن حددت الزاني بها فلم يبطل حقها الذي باستحقاقها إياه أدرئ عنها الحد بإقامتي الحد على واطئها فجورا .

وهو بعد ذلك غير مستهلك لها ملكا ، فيقال لنا إذا فعلنا ذلك : قد جمعت عليه مع الحد في الفعل الذي فعله غرم قيمة ما استهلك على المرأة بفعله الذي استوجب به الحد فبين بذلك افتراق حكمهما ، وبعد اشتباه أمرهما ، وأنه غير جائز تمثيل حكم أحدهما بحكم الآخر .

[ ص: 120 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية