تهذيب الآثار للطبري

الطبري - محمد بن جرير الطبري

صفحة جزء
( القول في البيان عما في هذه الأخبار من الغريب )

فمن ذلك : قول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - إذ علم أمته الصلاة عليه - : " قولوا : اللهم صل على محمد " وقد بينا معنى قوله : " اللهم " فيما مضى من كتابنا هذا ، وذكرنا اختلاف المختلفين من أهل العربية فيه ، وبينا الصواب - لدينا - من القول فيه .

وأما الصلاة : فإنها في كلام العرب : الدعاء .

يقال : صلى فلان على فلان : إذا دعا له بخير .

ومن ذلك قول أعشى بن ثعلبة في صفة خمر : [ ص: 261 ]

لها حارس لا يبرح الدهر بيتها وإن ذبحت صلى عليها وزمزما)

يعني بقوله : صلى عليها : دعا لها .

ومنه قول الله - تعالى ذكره - لنبيه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم .

يعني بقوله : وصل عليهم : ادع لهم بخير .

فإن قال قائل : فإن كانت الصلاة دعاء كما قلت ; فقد وجب أن يكون قولنا : اللهم صل على محمد مسألة منا ربنا ، أن يدعو لمحمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وذلك من المحال ; لأن الله - جل ذكره - هو المرغوب إليه ، والمدعو غير الراغب إلى أحد قيل : إن ذلك بخلاف ما توهمت وإنما معنى ذلك : من دعاء الداعي ربه مسألته إياه أن يرحم محمدا - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ويبارك عليه .

وذلك أن صلاة الله على عبده : رحمته إياه .

وصلاة العباد بعضهم لبعض : دعاء بعضهم لبعض .

فالعباد يرغبون إلى الله - جل ثناؤه - بقولهم : " اللهم صل على محمد " .

في أن يرحمه ، ويبارك عليه .

والله - تعالى ذكره - يصلي عليه برحمته إياه ، وبركته عليه .

وأما معنى قوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - " وآل محمد " : فإن أصل " آل " في كلام العرب : " أهل " أبدلت الهاء همزة ، كما قالوا : ماء .

فأبدلوا الهاء همزة.

يدل على أن ذلك كذلك : قولهم في التصغير : " مويه " فيردون الهاء التي كانوا جعلوها همزة فيه .

وكذلك يفعلون في الآل إذا صغروه ، قالوا : " أهيل " .

فيردون الهاء التي كانوا جعلوها همزة فيه .

وقد حكي سماعا من العرب في تصغير آل : أويل .

وأكثر [ ص: 262 ] ما يستعمل العرب " آل " مع الأسماء المعروفة المشهورة .

كقولهم : آل محمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .

وآل عباس ، وآل عقيل .

وقل ما يستعملونه مع المجهول من الأسماء ، لا يكادون يقولون : رأيت آل الرجل ، وآل المرأة .

وقد يقال للرجل الذي يطلب النساء ، ويريدهن ، ويهواهن : هو من آل النساء .

ومن ذلك قول الشاعر :

فإنك من آل النساء وإنما     يكن لأدنى لا وصال لغائب)

وقد قال الله - تعالى ذكره - : كدأب آل فرعون ; يعنى بآل فرعون : قومه الذين كانوا على دينه ، وفي طاعته .

وأما قول علي - رحمة الله عليه - : " اللهم داحي المدحوات " .

فإنه يعني بقوله : " داحي المدحوات " : باسط المبسوطات .

ويعني بباسط المبسوطات : الأرضين السبع .

وذهب في ذلك إلى قول الله - تعالى ذكره - : والأرض بعد ذلك دحاها .

يقال منه : دحوت الثوب ، إذا بسطته ومددته ، أدحوه دحوا ودحا الصبي الجوزة : إذا دحرجها .

ومنه قيل لمداح الصبيان : مداح .

وفيها لغة أخرى ، وهي : دحيته أدحاه دحيا .

ومن ذلك قول أمية بن أبي الصلت :

دار دحاها ثم أعمرنا بها     وأقام بالدار التي هي أمجد)

وأما قوله : " وبارئ المسموكات " .

فإنه يعني بالبارئ : الخالق : يقال منه : برأ الله الخلق ، فهو يبرؤهم برءا .

ومنه قول الله - تعالى ذكره - ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها يعني من قبل أن نخلقها .

[ ص: 263 ] وأما المسموكات : فإنها المرفوعات بناء .

يقال منه : سمك فلان بناءه .

فهو يسمكه سمكا .

ومنه قول الله - تعالى ذكره - : رفع سمكها .

ومنه قول الفرزدق بن غالب :

إن الذي سمك السماء بنى لنا     بيتا دعائمه أعز وأطول)

وأما قوله : " وجبار القلوب على فطرتها " .

فإنه يعني بقوله : وجبار القلوب على فطرتها : مهيئها ومنشئها .

ويعني بقوله : على فطرتها : على ما هيأها عليه ، وأنشأها من شقاء وسعادة .

والفطرة : الخلقة .

من قول الله - تعالى ذكره - : الحمد لله فاطر السماوات والأرض بمعنى خالقها .

وأما قوله : " ورأفة تحننك " ; فإن الرأفة : رقة الرحمة .

يقال منه : قد رأف فلان بفلان ، فهو يرأف به رأفة .

ومنه قول الله - تعالى ذكره - ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله .

ويقال لمن وصف بذلك : هو رجل رؤوف ، ورؤف .

ومن الرؤف قول الوليد بن عقبة :

وشر الطالبين فلا تكنه     تقاتل عمه الرؤف الرحيم)

وأما التحنن : فإنه التفعل من الحنان ، وهو الرحمة .

ومنه قول الله - تعالى ذكره - : وحنانا من لدنا وزكاة بمعنى : ورحمة .

ومنه قول طرفة بن العبد :

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا     حنانيك بعض الشر أهون من بعض

وأما قوله : " والدامغ جيشات الأباطيل " .

فإن الجيشات : جمع جيشة .

والجيشة : الفعلة .

من قول القائل : جاشت الفتية : إذا هاجت [ ص: 264 ] واشتدت .

وجاشت القدر : إذا هي فارت غليا ، فهي تجيش جيشا ، وجيشة .

والجيشة : المرة الواحدة .

مثل الغلية .

ومنه قول الشاعر :

تجيش علينا قدرهم فنديمها     ونفثؤها عنا إذا حميها غلا

وأما قوله : " كما حمل فاضطلع " .

فإنه يعني بقوله : " فاضطلع " : فأطاق حمله ، واستقل به ، وقوي عليه .

يقال منه : إن فلانا مضطلع بهذا الأمر : إذا كان قويا عليه .

ومنه قول الأعشى في مدح هوذة بن علي الحنفي :

قد حملوه حديث السن ما حملت     ساداتهم فأطاق الحمل واضطلعا

يعني بقوله : اضطلع : احتمل ، وقوي عليه .

وأما قوله : " حتى أورى قبسا لقابس " .

فإنه يعني بقوله : أورى : أظهر ، وأوضح ، وأنار ، وأضاء .

من قولهم : أورى فلان من زنده النار : إذا أظهرها ، فهو يوريها إيراء .

ومنه قول أعشى بني ثعلبة :

ولو رمت في ظلمة قادحا     حصاة بنبع لأوريت نارا

يعني بقوله : لأوريت : لأظهرت .

وأما القبس : فإنه الشعلة من النار .

وأما القابس : فإنه المستشعل .

ومنه قول الله - تعالى ذكره - مخبرا عن قول موسى صلوات الله عليه لأهله : لعلي آتيكم منها بقبس .

وإنما جعل علي - رضوان الله عليه - الحق الذي جاء به نبينا محمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من الإسلام وشرائعه ، والقرآن وحكمه مثلا للقبس يقتبسه المقتبس .

فجعل ذلك في نوره ، وبرهانه ، وضيائه لمن [ ص: 265 ] استنار به ، واستضاء بضوئه ، مثل القبس من النار لقابسه .

ومن القبس والقابس أيضا ، قول الكميت بن زيد الأسدي :

لما أجابت صفيرا كان آيتها     من قابس شيط الوجعاء بالنار)

وأما قوله : " آلاء الله تصل بأهله أسبابه " : فإن الآلاء هي النعماء .

ومنه قول الله - تعالى ذكره - : فبأي آلاء ربكما تكذبان .

بمعنى : فبأي نعماء ربكما تكذبان .

وأما قوله : " من فوز ثوابك المعلول " : فإنه يعني بالمعلول : المضاعف .

وأصله : من العلل في الشرب : وهو الشرب الثاني .

يقال منه : شرب فلان علا بعد نهل .

فالنهل : الشرب الأول ، والعلل : الشرب الثاني .

ثم يستعمل العلل في كل شيء تكرر مرة بعد مرة ، فيقال للثوب إذا صبغ صبغا بعد صبغ ، وأعيد عليه الصبغ مرة بعد مرة : عل بالصبغ .

ومنه قول أبي داود الإيادي في صفة لون فرس :

خيفانة تهدي الخبار كأنها     غب الوجيف تعل بالإجساد)

يعني بقوله : تعل بالأجساد : يعاد عليه الصبغ بالإجساد .

وهي جمع جساد .

والجساد : الزعفران ، ودم الأخوين! وأما قوله : " وجزل عطائك المحلول " : فإنه يعني بالمحلول : المبذول .

وهو مفعول من قولهم : حللت العقد .

وأما قوله : " عل على بناء البنائين بناءه " : فإنه يعني بقوله ; عل : ارفع .

[ ص: 266 ] من قول القائل : على فلان بناءه : إذا رفعه ، فهو يعليه تعلية .

وأما قوله : " وأكرم مثواه " : فإن المثوى : المنزل .

وهو المفعل من قولهم : ثوى فلان بموضع كذا : إذا أقام به .

ومنه قول سحيم عبد بني الحسحاس :

فإن تثو لا تملل وإن تصح غاديا     تزود وترجع عن عميرة راضيا)

يعني بقوله : تثو : تقيم .

ومنه قول الله - تعالى ذكره لنثوينهم من الجنة غرفا : يعني بقوله : لنثوينهم : لننزلنهم ، ولنجعلن لهم موضع مقام .

وأما قول الأعرابي للنبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ " ، وقول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - للأعرابي : " حولها أدندن أنا ومعاذ " : فإن الدندنة : هو الكلام الخفي الذي يسمع من المتكلم به صوته ، ولا يفهم معناه ، مثل الهينمة .

وأما قول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في التشهد : " قولوا : التحيات لله " .

فإن التحيات : جمع تحية .

والتحية في كلام العرب : الملك .

ومنه قول زهير بن جناب الكلبي :

أبني إني فاعلموا     أورثتكم مجدا بنيه
وتركتكم سادات أقوام     زنادكم وريه)
من كل ما نال الفتى     قد نلته إلا التحية

[ ص: 267 ] يعني بالتحية : الملك .

ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي :

أسير إلى أبي قابوس حتى     أنيخ على تحيته بجندي

يعني بقوله : على تحيته : على ملكه .

وقد روي عن أنس بن مالك أنه سئل عن ذلك ، فقال : معناه الحياة الدائمة لله! والذي ذكرت أن العرب تقوله في معنى التحية ، هو المعروف عند أهل العلم بكلام العرب .

التالي السابق


الخدمات العلمية