تهذيب الآثار للطبري

الطبري - محمد بن جرير الطبري

صفحة جزء
القول في البيان عما في هذه الأخبار من الغريب

فمن ذلك قول الذي سأل ابن عباس فقال له: إنا قدمنا البلد ونحن آمنون خافضون.

يعني بقوله: خافضون: ساكنون وادعون لا نحارب أحدا.

وأصله من خفض الصوت، وهو سكونه، وترك رفعه.

يقال للرجل: [ ص: 268 ] اخفض من صوتك: يراد به أخفه وسكنه، واترك الضجاج.

ومنه قول الطرماح بن حكيم:

فاذهبوا ما إليكم خفض الحلم عناني وعريت أنقاضي

يعني بقوله: خفض الحلم عناني: سكن الحلم جهلي وأخفاه، فذهب به، وغلب الحلم علي.

ومنه قول جرير:

الظاعنون على العمى لجميعهم     والخافضون بغير دار مقام



يعني بقوله: والخافضون بغير دار مقام: والمستقرون بغير دار قرار، والساكنون بها [ ص: 269 ] وأما قول أبي جحيفة -إذ قيل له: مثل من كنت يومئذ؟ كنت أبري وأريش، فإنه يعني بقوله: أبري: كنت أنحت القداح.

يقال منه: بريت السهم والقلم، فأنا أبريه بريا: وذلك إذا نحته، ويقال لما تساقط من العود بالنحت: البراية.

ومنه قول نابغة بني ذبيان:


يريش قوما ويبري الآخرين به     لله من رائش عمرو ومن بار

ويقال للرجل إذا أنضى بعيره بطول السير عليه حتى صار حسيرا: قد برى فلان مطيه فهو يبريه بريا: وذلك إذا ذهب لحمه وشحمه، يشبه ببري القلم والقدح إذا نحتا، ويقال للبعير إذا كان باقيا على السير: إنه لذو براية.

ومنه قول عمرو الكلب في صفة حمار وحش: [ ص: 270 ]

على حت البراية زمخري     السواعد ظل في شري طوال



وأما قولهم: برى فلان لفلان: فهو من غير هذا المعنى، وإنما هو من معنى المعانة والمعارضة، يقال منه: برى فلان لفلان، فهو يبري له بريا: وذلك إذا عارضه يصنع مثل صنيعه، وانبرى له.

ومنه قول الشاعر:


برت لك حماء العلاط سجوع     وداع دعا من خلتيك نزيع



ويقال: فلان وفلان يتباريان: إذا كان كل واحد منهما يعارض صاحبه فيصنع مثل صنيعه.

ومنه قولهم: فلان يباري الريح سماحة وجودا، فهو يباريها مباراة: وذلك إذا أطعم وحمل وكسا كلما هبت، فعارض هبوبها بنائل وإفضال.

وأما البرء: فهو من غير هذه المعاني، وهو مصدر من قول القائل: برأ الله الخلق فهو يبرؤهم برءا، من قول الله جل ثناؤه: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ، يعني: من قبل أن نخلقها.

وكذلك: ذرأ الله الخلق فهو يذرؤهم ذرءا، من قول الله عز وجل: يذرؤكم فيه ، والله ذارئ الخلق، ويذرأهم، بتسكين الهمزة [ ص: 271 ] وأما البرء، بضم الباء، فإنه في لغة تميم وأهل نجد مصدر من قولك: برئت من المرض، فأنا أبرأ منه برءا، وفي لغة أهل الحجاز من قولك: " برأت من المرض فأنا أبرأ منه برءا.

وأما البراء بالمد، فإنه مصدر من قول القائل: برئت من كذا وكذا، فأنا أبرأ منه براء؛ ولذلك لا يثنى ولا يجمع، فيقال: هو براء من هذا الأمر، وللاثنين: هما براء منه، وللجميع: هم براء منه، الواحد والاثنان والجمع بلفظ واحد، كما يقال: هو عدل، وهما عدل، وهم عدل، ومنه قول الله عز وجل: إنني براء مما تعبدون ، فأما من قال: أنا بريء منك، فإنه يثني في التثنية، ويجمع في الجمع، فيقول: هما بريئان منك، وهم براء منك، وبريئون، وأبرياء، وبرآء.

وأما الإبراء، فإنه من غير هذه المعاني كلها، وهو مصدر، إما من قول القائل: أبريت الناقة، فأنا أبريها إبراء، وهي ناقة مبراة: وذلك إذا جعلت لها برة.

والبرة: الحلقة تجعل في أنف البعير، وإما من قول القائل: أبرأه الله من المرض إبراء.

وأما البرأة: فقترة الصائد، وهي الحفرة التي يكمن فيها للصيد.

وأما قوله: وأريش: فإنه يعني أنه كان يجعل للسهم ريشا.

وأصل الريش الكسوة، وما يلبس.

يقال: أعطى فلان فلانا رحلا بريشه: يراد [ ص: 272 ] بكسوته وجهازه، ويقال: إنه لحسن ريش الثياب.

وإنما قيل لريش الطائر ريش؛ لأنه له كهيئة الكسوة واللباس لبني آدم.

يقال منه: راش فلان فلانا: إذا أعطاه أثاثا وكسوة، فهو يريشه ريشا وريشا ورياشا، كما يقال: لبسه فهو يلبسه لباسا ولبسا.

وقد أنشد في اللبس بكسر اللام:


فلما كشفن اللبس عنه مسحنه     بأطراف طفل زان غيلا موشما



ومنه الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لعن الراشي والمرتشي والرائش الذي يريش بينهما. يعني بذلك صلى الله عليه وسلم: الذي يسفر بين الراشي والمرتشي ليحسن لكل واحد منهما فعله الذي يفعله من الإعطاء والأخذ، كالذي يحسن رائش السهم السهم بما يريشه من الريش.

وأما قول نافع: كان ابن عمر يقصر الصلاة في السفر ما لم يجمع إقامة: فإنه يعني بقوله: ما لم يجمع إقامة: ما لم يعزم على إقامة.

يقال منه: قد أجمع فلان على الإقامة بموضع كذا، وأزمع عليه: يراد به عزم على ذلك.

ومنه قول الله عز وجل: فأجمعوا أمركم وشركاءكم ، يعني بذلك: أحكموا أمركم، وأعدوا واعزموا على ما أنتم عليه عازمون.

ومنه قول الراجز: [ ص: 273 ]

يا ليت شعري والمنى لا تنفع     هل أغدون يوما وأمري مجمع

وأما قول عمر رحمه الله لأهل مكة: أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر: فإنه يعني بقوله: قوم سفر: قوم مسافرون، وهو مصدر؛ ولذلك لم يجمع، وهو مثل قولهم: قوم زور، وقوم صوم، وفطر، وجنب، وعدل، وما أشبه ذلك من المصادر، لفظ الواحد والاثنين والجميع، والمذكر والمؤنث، فيه واحد.

[ ص: 274 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية