( القول في البيان عن معنى هذا الخبر )
إن قال لنا قائل: ما وجه هذا الخبر؟
أو ليس الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - صحيحا - بنهيه أمته عن تصديق أهل الكتاب في حديثهم أو تكذيبهم؟ قلنا: بلى فإن قال: وكيف حدثه بما سمعه من بعضهم من غير إضافته ذلك إلى من سمعه منه؟ قيل: إن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - إنما نهى أمته عن تصديق أهل الكتاب أو تكذيبهم فيما لم يعلموهم فيه صادقين أو كاذبين مما يمكن من أخبارهم أن يكون صدقا، ويمكن أن يكون كذبا فأما فيما علموهم فيه صادقين أو كاذبين، فلم ينههم عن تصديقهم أو تكذيبهم.
بل الواجب على كل أحد تصديقهم فيما كانوا فيه من الأخبار صادقين، وتكذيبهم فيما كانوا فيه منها كاذبين، إذا علم صدقهم في ذلك أو كذبهم فيه.
فإن قال: فهذا هو الواجب على كل سامع خبر من كل مخبر فما الذي خص به أهل الكتاب في أخبارهم عما أخبروا؟ قيل: ليس الأمر في ذلك كذلك وذلك أن معروفا بالصدق فينا من أهل ملتنا لو حدثنا بحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أو عن كتاب الله، لكان علينا تصديقه في خبره ذلك، وإن كان من الأخبار الممكنة غير الواجبة
[ ص: 547 ] ولو أن معروفا بالصدق فينا من أهل الكتاب، أخبرنا عن نبينا - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أو نبيهم عليه السلام أو كتابنا أو كتابهم، مما لا نعلم حقيقته، لم يكن لنا تصديقه، فذلك المعنى الذي فرق بين حكم خبر الكتابي، وخبر غيره من أهل الإسلام، فيما أخبرا عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أو كتاب منزل في الأخبار الممكنة.
فأما حديث رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - الحديث الذي ذكره
الزبير ، أنه سمع رجلا من اليهود يحدثه به، ثم سمع بعد النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يحدث به، فإنه ممكن أن يكون مما كان عند النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من علمه مثل ما عند اليهودي منه، فحدثه اليهودي، فسمعه النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - منه، ليعلم صدقه فيه من كذبه إذ كانوا أهل زيادات في أخبارهم عن كتبهم، وتحريف لتنزيل الله - تعالى ذكره - وكذب على أنبيائهم، كما وصفهم الله - عز وجل - بقوله: من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه .
وبقوله:
فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون .
ثم حدث ذلك الحديث بعد النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - على ما كان عنده من علمه، من غير أن يضيفه إلى اليهودي الذي حدثه، لأنه لم يكن علم ذلك عنده من قبل خبر اليهودي!
وممكن - أيضا - أن يكون كان اليهودي حدثه به - إذ حدثه به - ولا علم عند رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بحقيقة ما حدثه به، ثم أتاه من الله - تعالى ذكره - الخبر بصحته على النحو الذي كان اليهودي حدثه به!
وممكن - أيضا - في ذلك وجوه غير ذلك، يكفي من ذكرها ما قد ذكرنا من كان ذا لب وعقل
[ ص: 548 ]